حول داعش.. أو الدولة الموبايل

في كتاب الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت (في العنف) ملاحظة مهمة جدا غيرت تقريبا طرق البحث العلمي في الظواهر الإنسانية المختلفة، وهي أن هناك فرقا كبيرا بين الحديث عن الظاهرة والحديث في الظاهرة

في كتاب الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت (في العنف) ملاحظة مهمة جدا غيرت تقريبا طرق البحث العلمي في الظواهر الإنسانية المختلفة، وهي أن هناك فرقا كبيرا بين الحديث عن الظاهرة والحديث في الظاهرة

الثلاثاء - 10 مارس 2015

Tue - 10 Mar 2015



في كتاب الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت (في العنف) ملاحظة مهمة جدا غيرت تقريبا طرق البحث العلمي في الظواهر الإنسانية المختلفة، وهي أن هناك فرقا كبيرا بين الحديث عن الظاهرة والحديث في الظاهرة.

تقول أرندت «لا يمكن لأي شخص أعمل فكره في شؤون التاريخ والسياسة، أن يبقى غافلا عن الدور العظيم الذي لعبه العنف دائما في شؤون البشر.

ومن هنا سيبدو لنا للوهلة الأولى مفاجئا ما نلاحظه من أن العنف نادرا ما كان موضع تحليل أو دراسة خاصة.

صحيح أن هناك بالتأكيد أدبيات وفيرة تبحث مسائل الحرب والعمليات العسكرية.

لكن كل هذه النصوص تهتم بأدوات العنف وليس بالعنف نفسه».

ولا تنطبق ملاحظة أرندنت قدر انطباقها اليوم على ظاهرة داعش التي سكب مداد كثير حول جرائمها وأدواتها الوحشية التي تقشعر لها الأبدان، ولكن لا يوجد إلا النذر اليسير الذي تناول داعش نفسها، ومنها هذه الدراسة الرائدة لمديرة برنامج الأمن الدولي في جامعة جورج ميسون أودري كورث كرونين التي نشرت في مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية.

وحملت هذا العنوان اللافت: داعش ليست جماعة إرهابية.



ما بعد القاعدة



كشفت أحداث 11 سبتمبر 2001 وما تلاها من أعمال إرهابية إلى أن العالم لم يعد يواجه دولة يمكن ردعها أو تخويفها أو التأثير بوسائل شتى للتوفيق والإغراء والضغط في مركز صنع قرارها، وإنما تجري المواجهة مع شبكات عنكبوتية تدور حول فكرة غير قابلة للألم أو العقاب أو الحرمان.

لكن الجديد بدءا من عام 2014 مع ظهور داعش كما تقول كرونين، أن العالم دخل مرحلة مختلفة تماما يطلق عليها: مرحلة ما بعد القاعدة.

ذلك أن «داعش « يستخدم الإرهاب كتكتيك وليس كاستراتيجية ومن ثم فهو يختلف عن تنظيم القاعدة ولا يمكن أن نعده تنظيما إرهابيا كغيره من التنظيمات السابقة والمعاصرة له.

داعش يمتلك – تقريبا – كل مقومات الدولة، ولكنها نمط غير مسبوق من الدولة: مؤسسات وتمويل ومشاريع اقتصادية واتصالات وشبكة مواصلات وجيش ومعدات عسكرية وعقيدة وتنظيم وتخطيط جيد والأهم من ذلك أن لديه القدرة على تجنيد أتباع وموالين له من جميع جنسيات العالم.



داعش وويكيليكس



من أجل الاقتراب من فهم هذا النمط الجديد من الدولة المفتوحة والمتحركة لداعش التي تصنع حدودها المتجددة بنفسها وباستمرار – ولا تعترف بحدود الدول الأخرى كما أنها ليست بحاجة لاعتراف المجتمع الدولي بها - والتي تضم جنسيات متعددة وتأوي بين ربوعها المهمشين والمهملين والمحبطين في جميع أصقاع الأرض دون قيد أو شرط، لا بد من إعادة تسليط الضوء على الحوار المنشور قبل خمس سنوات في مجلة إيتوجى الروسية مع رئيس أكاديمية القضايا الجيوسياسية الجنرال المتقاعد ليونيد إيفاشوف، تحت عنوان: «من يضخم قضية ويكيليكس» ولماذا؟.

يقول: «ويكيليكس جزء لا يتجرأ من عملية جيوسياسية، عولمية ينجم عنها انتقال مركز القوة من الدول إلى الشركات العابرة للقوميات، التي تسيطر على 80% من الموارد المالية العالمية كحد أدنى، وتتعطش إلى التحكم بالعالم أجمع.

إن الولايات المتحدة اليوم دولة خاضعة كغيرها من الدول.

ويستطرد إيفاشوف «إن الجهة التي تقف وراء ويكيليكس تضم حسب بعض التقديرات 16مركزا ماليا عالميا وأكثر من ألف بنك متعدد الجنسيات، وتحت تصرفها طاقات تحليلية جبارة، تتنبأ باتجاهات تطور الأحداث، وفى الوقت نفسه لا تزدري أساليب التشهير العادية.

أما البديل عن هيمنة المحافل المالية العابرة للقوميات فهو المتحدات الاجتماعية السياسية الجديدة.

ونلاحظ اليوم أن أوروبا تحاول التصدي للمحافل المذكورة عبر إقامة دولة موحدة.

ونرى كيف تكاتفت الصين والهند ردا على تلك التحديات، وما تؤدي إليه العمليات الجارية ما بين الحضارات من قيام بنى جديدة كمنظمة شنغهاى للتعاون، أو مجموعة دول بريك (البرازيل وروسيا والهند والصين)، ناهيك عن الخطوات الرامية إلى توحيد العالم الإسلامي، والمهمة الآن تتلخص حسب إيفاشوف،ـ بمنع تعزيز قوة المنافس الرئيس الذي قد يتمكن بمرور الوقت من تدمير النظام العالمي الحالي.



مهام تحت الطلب



ينهي إيفاشوف حواره بالتشديد على أن العالم ينتقل إلى نمط جديد يتسم بالمواجهة بين الحضارات الاثنوثقافية التقليدية والجهات المالية العابرة للقوميات، بحيث تغدو مكونات هذين الفريقين العناصر الفاعلة في المجريات العالمية، وهذا يعني نظاما عالميا جديدا لن تلعب فيه الدول أدوارها السابقة.

» «داعش» هو التجسيد الأبرز حسب كرونين، لمصالح قوى نافذة داخل النظام العالمي اليوم، تدعمها المحافل المالية العابرة للقوميات لذا فهي تتميز بالمرونة وسهولة الحركة والتنقل وأنها دولة مهام تحت الطلب وتجيد السرية والعمليات الاستخباراتية.

وأخيرا «لاعب أساسي في العلاقات الدولية لا يخضع للقانون الدولي» وعلى سبيل المثال لا الحصر لدى داعش اتصالات واسعة مع معظم شبكات المافيا الدولية التي تعمل في مجالات التهريب والاتجار بالبشر وتجارة السلاح والآثار والنفط، إلى حد التأثير على وتيرة الاقتصاد العالمي ومسارات السياسة الدولية بالضغط والترهيب والترغيب إذا لزم الأمر.

ربما كان الرئيس أوباما على حق حين قال في خطاب إعلان التحالف في سبتمبر 2014 في مواجهة الإرهاب: إننا نواجه عدوا متحولا ومختلفا شديد التعقيد والمرونة، لذا فإن هذه المواجهة طويلة وممتدة وعابرة للحدود السياسية.