بيئة العمل.. المبنى والمعنى

الاثنين - 12 مارس 2018

Mon - 12 Mar 2018

تتشكل بيئة العمل من مقومات مادية «المباني والأثاث والخدمات المساندة خارج المكتب مثل المواصلات والتأمين الصحي والخدمات الرياضية المقدمة للعاملين ... إلخ»، ومقومات غير مادية «اللوائح والأنظمة والسياسات والأخلاقيات والقيم»، وتتسم بيئة العمل المثالية بتكامل مقوماتها المادية وغير المادية «المعنوية» بشكل يحفز العاملين على الأداء الجيد.

تختلف المقومات المادية لبيئة العمل المميزة تبعا لتطور نمط الحياة، على سبيل المثال، تتميز مباني ومكاتب شركة قوقل، إحدى أكثر الشركات استقطابا للكفاءات المتميزة حاليا، بالتصميم غير التقليدي لمباني الشركة، حيث يندر وجود المكاتب التقليدية، فيما تنتشر داخل مباني الشركة الأرائك ومقاعد الراحة ومناطق عقد اللقاءات الجماعية وغيرها من الأثاث المريح المستخدم عادة في المنازل، إضافة إلى بعض الألعاب ووسائل الترفيه، وتهدف الشركة من ذلك إلى تحفيز موظفيها على الشعور بالراحة واستبعاد أي إحساس بالضغط، ومن ثم ينتج حب أكبر للعمل «رغم الصعوبات» وتحفيز أكثر على الإبداع «ولهذه الشركة الكثير من الإبداعات».

بيئة عمل مثل هذه لم تكن بارزة، أو موجودة، قبل 50 عاما مثلا، بل حتى وإن كانت موجودة، فإنها على الأغلب لم تكن البيئة الأمثل، في ذلك الحين، حيث إن المكونات المادية لبيئة العمل الجيدة في زمن ما تختلف حسب نمط الحياة في ذلك الزمن وتبعا لتطلعات المجتمع، وبذلك فإن البيئة المادية المناسبة لكل وقت ومكان تتشكل وفقا لاحتياجات وظروف وأوضاع المكان والزمان المرتبطين ببيئة العمل.

وعلى الرغم من أهمية توفير المقومات المادية المناسبة لبيئة العمل، إلا أنه يجب إيلاء الاهتمام الأكبر للمقومات غير المادية المشتملة على مجموعة اللوائح والأنظمة والسياسات والأخلاقيات والقيم المعمول بها في منظومة العمل، حيث إن تأثير تلك العوامل يعد حاسما في تشكيل بيئة العمل المثلى.

وفي حين أن المكونات المادية لبيئة العمل الجيدة تختلف حسب الظروف المعيشية المحيطة، إلا أن المقومات المعنوية تظل ثابتة مهما اختلفت ظروف الزمان والمكان، وذلك لأنها مرتبطة بأمر ثابت وهو طبيعة العامل والموظف «الإنسان» وهو العنصر الأهم في نجاح منظومات العمل المختلفة. سيظل دوما الموظف متحفزا بشكل أكبر في بيئة العمل التي تمارس العدالة والمساواة بين جميع منسوبي المنظومة «بمن فيهم القادة»، وضمان الحقوق، وتقدير العمل، والتشجيع على التحسن «حتى في حال وقوع العامل في خطأ»، والتعليم المستمر لتنمية إمكانيات الأفراد، والتمكين، ومنح الثقة، والتواصل الفعال والشفافية.. إلخ.

وبالنظر إلى بعض المدارس الفكرية البشرية والأنظمة الوضعية، فإننا نجد، مثلا، أن النظام الشيوعي يفرض على الفرد أن يعمل على قدر طاقته ويأخذ على قدر حاجته، وهذا يتناقض مع الطبيعة البشرية والقوانين الطبيعية. إنه من غير العدل مطالبة جميع الأفراد بالعمل، على مختلف مواقع العمل التي تتطلب مؤهلات وإمكانيات متفاوتة، وبالمقابل يتم منح كل فرد احتياجاته الأساسية فقط أو يتم منح جميع الأفراد بشكل متساو دون اعتبار لتباين الإمكانيات والإسهامات المتفاوتة للأفراد. إن العدالة تقتضي أن يحصل كل فرد على نتيجة تتناسب مع أهمية وحجم العمل الذي قام به، ومن ثم يتنامى التحفيز. إن تفهم الطبيعة البشرية مهم لتحفيز الأفراد سواء على مستوى منظومات العمل الصغيرة أو الكبيرة، بل حتى في الأعمال المرجو بها ثواب الآخرة «يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات».

الخير كله فيما جاء به الشرع الحنيف، بينما يندرج تنظيم ما يتعلق بالمكونات المادية المناسبة لبيئة العمل ضمن سياق التوجيه النبوي الشريف «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، مع أهمية الأخذ بعين الاعتبار عدم التعارض مع الأسس الشرعية، إلا أن الآيات القرآنية والسنة النبوية المطهرة أكدت دوما على أهمية المقومات الأخلاقية والسلوكية لصلاح ونجاح الأعمال ظاهرا وباطنا، عاجلا وآجلا. ومن ذلك أمر المولى عز وجل «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل»، وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

وخلاصة القول، رغم أهمية توفر المقومات المادية والمعنوية معا في بيئة العمل، فإن تركيز الانتباه على الأمور المادية فقط دون الاهتمام بالمقومات المعنوية لن يؤدي إلى تحقيق المطلوب بالضرورة، بل ربما يؤدي إلى نتائج عكسية. مثلا في حال تبنت إحدى منظومات العمل، شركة خاصة أو إدارة حكومية، تغيير مكونات المباني والمكاتب بما يتوافق مع بيئة قوقل بينما لم يتم الاهتمام بتطوير مقومات العمل المعنوية «العدالة، الشفافية.. إلخ» فإن ذلك سيؤدي إلى تراخي العاملين وانتشار التسيب وعدم الانضباط ويفضي إلى نتائج كارثية وفشل المنظومة. لذلك فإن الأولوية هي دوما لتوفير المقومات المعنوية لتحفيز منسوبي منظومة العمل على البذل والعطاء وصولا إلى التميز والإبداع بالتفكير أو العمل بطريقة غير تقليدية لتحقيق نتائج مميزة أو جديدة أو غير مسبوقة. ولعلي هنا أستعير جزءا ورد في مقال سابق بهمسة للمسؤول: قد لا تحصل على كل ما تتمناه من الموظف، لكن إن حفزته فسيعطيك كل ما يستطيع، وإن ألهمته ليبدع فإنه حتما سيعطيك أكثر مما تتوقع.

@mtsimsim