عبدالله المزهر

بعد أن جعلوني مهربا...!

سنابل موقوتة
سنابل موقوتة

الثلاثاء - 06 مارس 2018

Tue - 06 Mar 2018

حصلت على كتاب «حياة في الإدارة» للراحل غازي القصيبي عن طريق التهريب، لا زلت أذكر الارتباك والخوف اللذين سيطرا علي عندما اقتربت من نقطة تفتيش الجمارك في جسر الملك فهد. مرت الأمور تلك الليلة بسلام مع أن موظف الجمارك لو نظر إلى وجهي لساورته الشكوك أني أهرب ثلاثة أطنان من المخدرات.

ثم قرأت الكتاب قراءة مودع، فربما يكون لقاؤنا الأول هو لقاءنا الأخير وقد يتم القبض علي متلبسا بقراءة كتاب ممنوع. وكنت حين أقرأ الكتب الممنوعة أقرؤها قراءة مذاكرة وكأني سأمتحن فيها، حتى الجمل العادية والعبارات التي يمكن أن تقرأ في الصفحة الأولى من صحيفة رسمية كنت أتوقف عندها وأقنع نفسي أنها تختلف وأنها ربما تحمل معاني لم يدركها فهمي القاصر.

عرفت منذ تلك الأيام أني سأفشل فشلا ذريعا مريعا لو فكرت في التهريب كمهنة تحقق حلمي الأزلي ـ أعني الثراء الفاحش، فقد كدت أصاب بنوبة قلبية وأنا أهرب كتابا لمسؤول سعودي لا زال على رأس العمل، فماذا سيحدث لو فكرت في تهريب ديوان لأحمد مطر أو مظفر النواب، أظن أني سأعترف لو سألوني ماذا تحمل بأني من أشعل الحرب العالمية الثانية وأني أخطط لضرب برجي التجارة في منهاتن.

الأمر الآخر الذي آمنت بفشلي فيه فشلا لا يقل عن فشلي في التهريب هو فهم عقلية الرقيب. أتعب كثيرا وأنا أحاول فهم «ما بين السطور» في كتابات وكتب ممنوعة، ثم أكتشف لاحقا أنه لم يكن بين سطورها شيء غير ما ظهر على سطورها الواضحة. آمنت لاحقا بأن الرقيب لا يقرأ ولكنه «يخمن» فقط. القصيبي على سبيل المثال كانت الصحوة هي التي تناصبه العداء، ولكن الحكومة ـ التي هو أحد مسؤوليها ـ هي من تمنع كتبه. وهذا جدل ربما يعود بنا للجدلية الفلسفية، من أتى قبل الآخر البيضة أم الدجاجة، ومن كان يتحكم في الآخر، الدولة أم الصحوة.

أتى عالم الانترنت وأزاح عن كاهلي هم فشلي الذريع في التهريب، بعد أن تم ضبطي متلبسا بتهريب ديوان بدر شاكر السياب ووقعت تعهدا بعدم العودة لتلك الجريمة النكراء. أصبحت الكتب التي نتداولها سرا تباع في المكتبات، وما يمنع منها يتم تحميله من المكتبة الكونية ـ الانترنت ـ في أقل من دقيقة.

ثم إن العمر قد امتد بي حتى رأيت الكتاب الذي كنت سأفارق الحياة «مجلوطا» وأنا أهربه قد أصبح مقررا في المدارس. ولو قيل لي هذا وأنا أقف أمام رجل الجمارك قبل عقدين لاعتبرت مجرد الحديث عن الفكرة من الخيال الممنوع الذي قد يعاقب مرتكبه.

الأشياء تتغير سريعا وأصبح الخيال جامحا لدرجة أنني أتخيل الآن أن كتاب «رأس المال» لكارل ماركس يدرس في كلية الشريعة في جامعة الإمام.

وعلى أي حال..

القصيبي يستحق ما هو أكثر من هذا تكفيرا عما لاقاه أثناء حياته وقبل أن يكف عن الوجود، وأظن أن إقرار الكتاب ليس من أجل محتواه العلمي، ولكنه ربما للدلالة الرمزية على انتهاء مرحلة ما وبداية أخرى. ثم إني قد أبالغ في الحلم قليلا وأتمنى ألا تكون المرحلة الأخرى هي انتقال من إقصاء إلى إقصاء مضاد.

@agrni