علي الحجي

الإنسان العربي بين الأشياء والأفكار

السبت - 03 مارس 2018

Sat - 03 Mar 2018

يغص العالم العربي في بحر متلاطم من المشكلات التي تتوالد وتتكاثر بشكل مخيف منذ قرون، ولا يخفي مشكلة من صدارة المشهد إلا مصيبة أكبر وكارثة أعظم، ويختلفون في توجيه أصابع الاتهام نحو المسببات فالواعظ يراها في البعد عن الله والقرب من الشيطان، والسياسي يراها في السياسات والحكومات، والتاجر يراها في البطالة والكساد، والمثقف يراها في الأيدلوجيات وصراعاتها، ورغم اختلافهم في المسبب إلا أنهم يتفقون في عدم إخضاع مشكلاتنا لمعايير البحث العلمي الحقيقي، فلا شك أن هناك مسببات ظاهرة لا ينكرها أعمى، ولكن حتى لو اتفقنا في نوعها لا يمكن أن نتفق على درجتها ولا علاقتها بمسببات أخرى، وهنا يكمن الفرق بيننا وبين العالم الأول.

فإنسان الغرب وبعض دول الشرق روض المادة فاهتم بالوزن والعدد وتشكيل الأشياء وإخضاعها للقياس والاختبار، ثم انتقل بمعاييره للإنسان فنسبة السعادة والكآبة والبطالة وعدد المواليد محسوبة ومعروف متى ارتفعت ومتى انخفضت وعلاقتها بتغير الحكومات وسعر النفط ودرجة الحرارة، لذلك يضعون يدهم على عوامل الخلل ويضعون الحلول المناسبة لها، وحتى لو لم تنجح هذه الحلول، لا يتوقفون عن إعادة البحث وإيجاد الحلول، فالإحصاء والإدارة والرياضيات من أهم العلوم. والمشكلات الاجتماعية والثقافية خاضعة للبحث ولغة الأرقام كما هي إنتاجية المصنع، فهم ينظرون للأرض ويعيشون واقع المشكلة، لذا يعيشون حالة اندفاع تطوري فعال، بينما العربي ما زال يعيش حالة أريكية خاملة، فيتمدد وينظر للسماء يعد النجوم ويتأمل مشكلاته ومآلاتها ليجرب حلا اعتباطيا ليس فيه أدنى درجات الموضوعية والتجرد، فيكون مصيره الفشل أو «الفشل»، أو نجاحا وقتيا مصيره أيضا الفشل، «ليقدح» رأيا جديدا مصيره أيضا الفشل، وهذا هو الفرق الجوهري، فالإنسان يبحث عن ملء فراغه، وطريقته في ملء هذا الفراغ هي التي تحدد طبيعة الحضارة والثقافة التي سيشكلها.

إن التغيرات الحضارية الكبرى لا بد لها من أفكار دافعة كبرى، وحركة المجتمعات في سلم التطور الحضاري تخضع لقوانين كأي ظاهرة إنسانية أخرى، وأول خطوات بناء حضارة مناسبة لنا هي المعرفة بالكيفية والهدف الذي سيجعلنا نقيم وضعنا الراهن بشكل موضوعي ومحايد ودقيق.

يقول مالك بن نبي «مسيرة الحضارة تسير بالمجتمع قوة وضعفا، دفعا وهونا، صعودا وهبوطا تبعا لدرجة تمحوره حول الأفكار أو حول الأشياء المحيطة به»، فالإنسان بطبيعته منذ الولادة يمر بمراحل تطور تبدأ بالتعرف على الأشياء من حوله باللمس والحواس ويكون روابط معها، ثم مع الأشخاص فيتعرف عليهم ويسميهم، ثم يكون روابط مع الأفكار المجردة التي يستطيع الخروج منها باستنتاجات، والأمر ينطبق على المجتمعات وصعودها سلم التطور، فكل إنجاز حضاري يقوم على مدى التوازن في المجتمع بين مكوناته من أشخاص وأشياء وأفكار، ولا تكون الأفكار ناضجة إلا إذا أشبعت القواعد الأولية بمعرفة الأشياء ومدى توفرها وطريقة إنتاجها واستخدامها، ثم إشباع العلاقات الإنسانية لتكون علاقات ناضجة تقوم على احترام الحقوق والواجبات والتكامل والتآلف، أما القفز إلى عالم الأفكار دون إشباع كاف ومعرفة وافية والتزام كامل نحو مكونات المجتمع من أشخاص وموارد فإنه ينتج أفكارا مشوهة مضطربة.

وحتى ننتقل لدرجة أعلى علينا إعادة النظر في موقفنا، فليس عيبا أن نعترف أننا تأخرنا رغم كل ما نملكه من موارد مادية وبشرية، فتقنيا يرى الأعمى مقدار الفجوة بيننا وبين العالم المتقدم، وعلى مستوى العلاقات الإنسانية فجوة بين القول والفعل، فما الفكر الذي سينبته الجهل ويسقيه الدم، فمدى تطور الحضارة يتناسب طرديا مع اعتمادها على الأفكار، وميول الأفراد نحو الأفكار يتحدد بتأثير المجتمع عليه، فالفرد يدفع ضريبة اندماجه الاجتماعي، وكلما كان المجتمع مختلا في نموه دفع الفرد ضريبة أكثر من عمره وذاته.

الأكثر قراءة

جميلة عادل فته

رجال الأمن.. رجال