محمد أحمد بابا

بخشيش

الاحد - 11 فبراير 2018

Sun - 11 Feb 2018

من أي لغة أتت كلمة بخشيش، وسواء فككناها إلى جزأين «بخ وشيش» أو تركناها على حالها، وأيا كان مقصدها في عالم المال، إلا أنها تظل تنبض في قلوب المسعرين للخدمات.

وعبر تفاوت المبلغ الذي يخرجه الطيبون من أموالهم (بخشيشا) لكل من هب ودب، تتفاوت النيات المضمرة عن الداعي لهذا العمل الاعتيادي في حياتهم.

فقائل: إنها ضرورة الحياة وضريبة الابتسامات، ومصدق: بأنها سبيل لتجويد العمل والعناية الخاصة، وذاهب: إلى أنها من الصدقات الجارية التي يكتب بها الثواب.

كنا نفهم من إطلاق المصطلحات بأنها تدل على أمر معين وضوابط جامعة لا يدخل فيها غيرها، وشبح (البخشيش) هنا يدل في الأصل على زيادة في الثمن أو القيمة لمقدم الخدمة من باب التكريم والتعبير عن الشعور بالرضا من العميل.

وحيث تمر الأشياء بعصور من شكل لآخر ومن جيل لغيره، فالمصطلحات أضحت أكثر تأثرا بالتبديل والتغيير من الإنسان الذي ينطق بها أو الأشياء التي تدل عليها، ليكون (البخشيش) ذا ثوب واسع فضفاض انسيابي مرن يستغل كل مسامات الدفع ومجالات التفاوض وطاولات العقود والعلاقات الاقتصادية بين الناس.

ثم امتد ليشترك مع المفاهيم الدينية في الزكاة والصدقة والصداق.

ولم يترك الكاتب الغربي (ميشال كليرك) في روايته الشهيرة (فئران الأنابيب أو بخشيش) BAKCHICH لبسا أو غموضا في نظرته ـ التي تخصه ـ عن العرب والعالم العربي بعد ثورة النفط متحدثا في شخصيات مستعارة عن فضاءات أرضية كبيرة لـ(البخشيش) غير ما كنا نتوقعه.

أما تعود الفئة التي تعيش من وراء (البخشيش) في حياة بذخ ورفاهية فقد جعل مفهوم الضريبة والرسوم المضافة وغير المضافة والمبالغ النثرية والدفع بدون سبب مستساغا ومعقولا في أذهاننا وقلوبنا دون أن يكون الإنكار أو الاستنكار حاضرين في هكذا مواقف، إذ ربما يؤدي الاعتراض بصاحبه لأن يوسم بالبخل (والطفاسة) والاهتمام بالتافه والحقير.

ولن تستكمل مهمة أو تتقن خدمة بعد هذا المد (البخشيشي) إلا بما يسقط في جيوب المنتظرين لبقايا المال على هوامش الخدمات، وكأنهم بذلك يثبتون أن انتظار البقايا والاستفادة من الساقط أو (البخشيش) أفضل من وظيفة في مؤسسة برلمانية أو هيئة أممية هي في ذاتها (بخشيش) المؤسسات.

بعض الأفراد في مجتمعنا المليء بالعمال يظن بأن (البخشيش) كفيل بطمس أية حقوق أخرى للمستخدم، وضامن لأن يكون هو في أمان حتى من ـ خالقه ـ إن هو أساء الأدب والتعامل الإنساني مع أخيه الإنسان، يسعى بذلك لاستخدام (البخشيش) كفارة (بهدلة) أو بدل (مرمطة)، فهو يتعامل وفق المثل الذي يحلو للبعض: (أطعم الفم تستح العين)، لكن اليد ما زالت ممدودة.

والحق أن رسوم الخدمة التي تفرضها الفنادق والمطاعم هي في الأصل (بخشيش)، والرسوم الإدارية التي يطلبها البنك والمصرف لقاء ابتسامة صفراء فاقع لونها هي في الأصل (بخشيش)، وغرامة تدفع لتأخر يوم أو اثنين عن تجديد وريقة إلزامية هي في الأصل (بخشيش)، وكثير مما هو مفروض فرضا هو في الأصل (مبخوش بخشا).

وبما أني في البداية وضعت احتمال تكوين المصطلح من قسمين: فكلمة (بخ) بفتح الباء أو كسرها وهي موسيقى تصويرية عن (الفجعة) أو (الخضة) في الظلام، أما (شيش) بكسر الشين الأولى فهي قد تعبر عن الشبك المعدني ضيق الفتحات في تلميح من بعيد نوعا ما عن السجن الذي غالبا ما يفصل المسجون عن سجانه فيه (شيش) ليس كأي (شيش).

إذن.. فكل مساق (البخشيش) اللساني يدعوك لأن تدفع خائفا من عتب، راغبا في التحرر من سجن يضعك فيه من تحتاج خدمته ولا تثق في عمله إلا إذا أسلت لعابه بوعد منته إلى (البخشيش).

وأكثر ما أحزنني في مسألة (البخشيش) أن النقود التي تعطى للأطفال في العيد يسميها البعض (بخشيش) العيد.