حسين بافقيه

كيف تصبح ناقدًا حداثيًّا في خمسة أيَّام؟

السبت - 03 فبراير 2018

Sat - 03 Feb 2018

كان أبو إسحاق الموصليّ موسيقارًا، وكان إلى مقامه في علم الموسيقا، لا يكاد يَنِدُّ عنه عِلْمٌ مِنْ علوم عصره، وكان الخليفة يعرف له قدره، فإذا دخل عليه الفقهاء كان أبو إسحاق في جُمْلتهم، وإذا اختلف إليه القضاة كان في عِدَادهم، فإذا ما تُحُدِّثَ في ما أصابه مِنْ ثقافة ذلك العصر، كان للرَّجُل مقامه السَّنِيّ فيها، لا سيَّما ما كان مِنْ علمه بالنَّغَم والشِّعر ونَقْده.

وعلى إحاطة أبي إسحاق الموصليّ بعلوم الأوائل والأواخر، وعلى ما انفسح له مِنْ عِلْم النَّغَم = كان يُحِسُّ صُعُوبة التَّهدِّي إلى بيان حاله إذا اتَّفق له أن أصغى إلى ضَرْبٍ عالٍ مِنْه، حتَّى أُثِرَ عنه قولته المشهورة: «إنَّ مِنَ الأشياء ما تحيط به المعرفة ولا تؤدِّيه الصِّفة». وأَحْسَبُ أنَّ هذا الشُّعُور يُداخلنا ساعةَ نتأمَّل قصيدة رائعة، أوْ نستمع إلى موسيقا عظيمة، فإذا أردْنا بيانًا نُدَلِّل به على ذلك الشُّعُور، لمْ نَكَدْ نهتدي إلى سببٍ له أوْ عِلَّة.

وتأبِّي اللُّغة عنْ بيانٍ واضحٍ لذلك الشُّعُور ليس عيبًا لازمًا، إنَّما هو – فيما أُقَدِّرُ – تعظيم لذلك الفنّ الَّذي يُحِسُّه رُوحُنا وإنْ لمْ تُبِنْ عنه ألسنتنا. وأدرك الأسلاف جلال تلك الحالة الَّتي يكون عليها الفنّ، مهما اختلفتْ ضُرُوبه، فقال أبو إسحاق الموصليّ قولته الرَّائعة تلك، لكنَّهم، كذلك، اهتدَوْا إلى شيءٍ مِمَّا غار في نفوسهم فأدَّوْه بتعبيرات يَلُوحُ في ظاهرها العجز عنْ تبيان أسرار الفنّ والجَمَال، ويَتَدَسَّس في أثنائها جلال الفنّ وجبروته، وما كان لهم مِنْ أمر، وقدْ حِيلَ ما بينهم وبين قصيدة رائعة، إلَّا أن يحتالوا عليها بعِبَارات تدلُّ على تأبِّيها عليهم وإجلالهم لها، وأشهر تلك العِبَارات: «متينة السَّبك»، «رائعة الدِّيباجة»... وغَبَرَ على الأدباء والنُّقَّاد، ومِنْهم ذوو البصر بمواضع الجَمَال، دهرٌ لمْ يستطيعوا أداء ما للشِّعْر مِنْ معنًى في نُفُوسهم بغير تلك العِبَارات المَجازيَّة المُوْمَأ إلى طَرَفٍ مِنْها، فلَمَّا كان العصر الحديث واتَّصل نَقْد الأدب بما تَقَلَّبَتْ فيه العلوم الصَّحيحة = نَظَرَ نَفَرٌ مِنَ النُّقَّاد إلى تلك العِبَارات وأمثالها في كُتُب التُّراث، ورأَوْا أنَّها لا تُحَقِّق ما يرجونه مِنْ نَقْدٍ أدبيٍّ يقوم على العِلْم، ويؤدِّي معاني الجَمَال بعِبَارات واضحة «تؤدِّيها الصِّفة» - إذا استعنَّا بكلمات أبي إسحاق الموصليّ - مع أنَّ تلك العِبَارات الَّتي شاعتْ في كُتُب القوم كان لها معانٍ محدَّدةٌ فَهِمُوا هُمْ مقاصدها، وإنْ غامتْ عنَّا، وعِلَّة ذلك، فيما أُقَدِّر، تَوَزُّع نَقْد الأدب، والشِّعْر خاصَّةً، على طائفةٍ مِنَ العلوم الحديثة، في العصر الحاضر، ولا يكاد يستقرُّ مصطلحه حتَّى يؤول إلى عِلْمٍ آخرَ جديد، فلمْ يستقرَّ مصطلحه، وقدْ كان واضحًا مستقرًّا في عُقُول سَلَفنا، وعلى أَسَلات أقلامهم.

والحقُّ أنَّني أكاد أُحِسُّ معنى تلك العِبَارات في رُوحي، وأحْسَب أنَّ ما في الفنِّ مِنْ معانٍ رُوحيَّةٍ قمينٌ أن يَصِلَنا بتلك المعاني، والفنُّ العظيم ليس شأنًا يسيرًا يسهل التَّهدِّي إليه، ولوْ كان كذلك لاستقام لكلّ قصيدة رائعة، أوْ لوحة ساحرة، معنًى واحدٌ ومقصدٌ واحد، ولجاز أنْ تسلك أفهامنا إليها سبيلًا واحدًا، وما هكذا العُلُوم الصَّحيحة، فما أيسرَ أنْ نهتدي إلى مقاصدها، إنْ لمْ يَكُنْ بالجُمَل والكلمات، فبالرُّمُوز والمعادلات.

ظَنَّ قبيلٌ مِنْ نُقَّاد الأدب أنَّ النَّقْد الأدبيّ صار عِلْمًا خالصًا، أوْ ما يُشْبه العِلْم الخالص، لَمَّا اتَّصل بالعلوم الصَّحيحة، وترانا اليومَ نقرأ في كلماتهم شُعُورًا بتملُّك تلك العلوم، وتراهُم يُدِلُّون بذلك، في أدنَى مناسبةٍ: فكلامهم موصول العُرَا بالعلوم الصَّحيحة، ومذاهبهم الَّتي يسوقونها بين يَدَيْ ما يدرسونه إنَّما هي مِنْ صميم العِلْم والمنهج، وظنَّ الفاضل مِنْهم أنَّ عَدَّه مفردات القصيدة، ثُمَّ إحصاء التَّفعيلات والبُحُور، وبيان الماضي والمضارع والأمر مِنَ الأفعال = ظنَّ كُلَّ أولئك منهجًا يهديه إلى معنى القصيدة ورُوحها. وهذا وَهْمٌ خالص، وما درى صاحبنا أنَّه إنَّما يخلط بين «المنهج» و»الأداة»، وأنَّ العَدَّ والإحصاء والجدول والبيان.. كُلُّ أولئك «أدوات» يُحْسِنُ أداءَها كُلُّ أحد، وأنَّها، مهما خايَلَنا به في هذه الدِّراسة أوْ تلك، لا تُفِيد قُدْرةً على فهمٍ صحيحٍ للآثار الأدبيَّة، فَفِقْهُ النُّصُوص لا يتأتَّى إلَّا لِمَنْ أُوتِي بَصَرًا بمَضَايِق الجَمَال حديدًا، ورُزِقَ الذَّوق السَّليم، وكان خبيرًا بما تَصَدَّى له. ولوْ كانتْ تلك الأدوات الَّتي يَظُنُّها نَفَرٌ مِنَ الدَّارسين «منهجًا»، حين يتحدَّثون عن «المنهج» = لَتَيَسَّرَ لِمَنْ أصاب شيئًا مِنْها الاهتداء إلى الفنون العظيمة، ولانتهتِ القضيَّة، واستراح النَّاس!

يقول غير واحدٍ مِنْ أصحاب تلك «الأدوات»: إنَّ مذهب طه حسين وزكي مبارك في قراءة الآثار الأدبيَّة مذهب «انطباعيّ»، يريدون الإزراء بذينك القارِئَيْن العظيمين، حتَّى إذا ألقيتَ بَصَرَكَ في كلام صاحب «الأدوات» – ومعرفة كثيرٍ مِنْهم بالفنِّ لا تَعْدو السَّطح – لمْ تَكَدْ تظفر إلَّا بجُمَلٍ تَهِيمُ في الفضاء، ولا تنزل على الأرض حتَّى نستطيع تحقيقها وتعيينها، وإذا بنا نقرأ كلامًا يُهَوِّم في لا شيء، مع فارقٍ جِدِّ مهمٍّ هو أنَّ فاضلنا ظَنَّ أنَّه حين كسا كلماته لَحْمًا حداثيًّا عَدَا الانطباع وأصبح ذا منهجٍ علميٍّ «صارم»، ولوْ نابتْ كلمات «البنية»، و»النَّصّ»، و»انشطار النَّصّ»، و»التَّوتُّر النَّحويّ»، و»الانكتاب» - عنْ تلك «البصيرة» الَّتي نُلْفيها عند صفوة القارئين، لاستكثرْنا مِنْها واستغنيْنا عن الذَّوق والخبرة والمواظبة على قراءة الفنون الرَّفيعة، وعسى أنْ تقرأ عنَّا تلك الكلمات أثرًا شِعْريًّا أوْ قصصيًّا إنْ أعجزتْنا القُدرة عن الاهتداء إلى مواطن العُجْب والفُتُون فيها!