حسين بافقيه

بلاغة العامَّة

الأربعاء - 24 يناير 2018

Wed - 24 Jan 2018

لفكرة «المَقام» في البلاغة العربيَّة شأنها ومكانتها، وعليها أقام البلاغيُّون أحكامًا هي أقرب إلى الشُّرُوط الاجتماعيَّة الَّتي نَشَأَتْ في كَنَف البلاط، ورعاها طائفة المؤدِّبين، وإذا بها جُزْءٌ أساسٌ في المُدَوَّنة النَّقْديَّة والبلاغيَّة، وأصبحتْ فكرة «مراعاة المَقام» أصلًا أصيلًا في تراثنا البلاغيّ، نَزَلَ عليها الشُّعراء والأدباء، واستقادوا لها فيما يُنْشِئون، وظَهَرَ أثرُها في توجيه الذَّوْق الأدبيّ، على نحو ما نقرؤه في غير كِتابٍ مِنْ كُتُب النَّقْد الأدبيّ، بلْ إنَّ عناصر البلاغة، كالتشبيه والاستعارة والمجاز، أضحتْ أدنَى صِلَةً إلى المُواضعات الاجتماعيَّة، وإنْ تَدَرَّعَتْ بِأَرْدِيَةٍ فنِّيَّة؛ ذلك أنَّ ذوق العصر في البلاغة العربيَّة القديمة يستريب مِنَ الاستعارة، ويُعْلِي مِنْ شأن التَّشبيه، ورَفَعَ النُّقَّاد والبلاغيُّون ذلك إلى ثقافة العرب، منذ العصر الجاهليّ، فالذَّوْق العربيّ يَمِيل إلى التَّشبيه، ورَوَوْا أقوالًا رَفَعَتْ شِعْر امرئ القيس لأنَّه أبرع الشُّعراء تشبيهًا، ولأنَّه سبقهم إلى تشبيهاتٍ صارتْ، بعد حِينٍ، جُزْءًا مِنْ تُراث العرب في التَّشبيه، وما استقامَ للاستعارة ما استقامَ للتَّشبيه.

ويعجبني، هنا،تحليلٌ اجتماعيٌّ عميقٌ للتَّشبيه والاستعارة، في كلامٍ جليلٍ للنَّاقد والبلاغيّ مصطفى ناصف، قال فيه: إنَّ النُّقَّاد العرب - وهُمْ في غالبهم موظَّفون في البلاط - فَضَّلُوا التَّشبيه على الاستعارة؛ فالتَّشبيه يَكْفُل مسافةً بين المُشَبَّه والمُشَبَّه به، أمَّا الاستعارة فتلغي ما بينهما مِنْ حُدُود، هي إنْ تَدَبَّرْناها انعكاسٌ لمَراتبَ اجتماعيَّةٍ يَضِجُّ بها واقع الناس وحياتهم.

كانتِ البلاغة العربيَّة، في وجهٍ مِنْ وُجُوهها، بلاغةَ الخاصَّة، ولكنْ لا ينبغي لنا أنْ نتمادَى فنُسْرِف في هذا التَّصَوُّر. نَعَمْ، نقرأ في كُتُب البلاغة والنَّقْد أحكامًا تدور حول فكرة «المَقام»، لكنَّ ذلك لمْ يَحُلْ دُون بلاغةٍ أخرى، نَشَأَتْ بعيدًا مِنَ البلاط والمؤدِّبين الواقفين في بابه. وبينما نَظْهَرُ في كُتُب البلاغة والنَّقْد - في أوَّل نشأتها - على أحكامٍ هي فرعٌ للمَقام = إذا بنا نقرأ، بعد ذلك، ما يمكن عَدُّه عناصرَ لبلاغةٍ جديدةٍ، صاغها شُعراء وناثرون أرادوا بإنشائهم أَوْجُهًا مِنَ القول تَؤول إلى العامَّة، في شُؤونهم وشُجُونهم، وشيئًا فشيئًا صار لتلك البلاغة الَّتي تَكَوَّنَتْ بعيدًا مِنَ البلاط ونُقَّاده موقعها في الكُتُب الَّتي تَحَدَّرَتْ إلينا، بلْ إنَّنا نُمْسِك ببلاغةٍ «شعبيَّةٍ» أعلامُها شُعراء لمْ يَعْرِفوا البلاط ولا أصحابه، فإذا كانتِ الاستعارة «معدِن» الشِّعْر، عند الخاصَّة؛ فإنَّ التَّوريَة «معدِن» كلام العامَّة، وقدْ طالما أنفق الشُّعراء والبلاغيُّون، في العُصُور المتأخِّرة، الوُسْع والطَّاقة وهُمْ يطلبون «توريَة» جديدة، كما رَشَحَ، مِنْ قَبْلُ، جبين شاعرٍ مِنْ شُعراء البلاط في تَطَلُّب تشبيه طريف، واستعارة معجبة.

@hussain_bafagih