خضر عطاف المعيدي

لغتنا بين الاستقامة والاعوجاج

الأربعاء - 06 ديسمبر 2017

Wed - 06 Dec 2017

يعلم كل من ارتاد بلاد الغرب، خصوصا أستراليا وبريطانيا وأمريكا، أنه وأثناء الحديث مع أحد أفراد المجتمع فإنه لا يتنازل عن المستوى اللغوي أو الصوتي لكي يبسط لك الفهم، بل يستخدم ما يطلق عليه في اللسانيات بـ accommodation، أو ما يسمى بالتنميط اللغوي فيقوم بانتقاء الألفاظ وفق ما يسمى بـ convergence، وأحيانا يمارس ما يسمى بالتصعيد اللغوي divergence، بل وأشد من ذلك فالمتحدث منهم يتحدث إليك بلهجته المحلية دون أي التفات لمدى فهمك له أو لا. وهنا يأتي دور السامع لبذل أشد الجهد لفهم مناط الحديث، وهذا له دور كبير في إسراع عملية التعلم لكثير ممن يريد الدراسة في الغرب أو العمل. ويلحظ دائما أن المتحدث الغربي لا يطأطئ لغته لك، بل عليك الصعود إلى مستواه، وأدى هذا بدوره إلى نفور الكثير والنكوص والشعور بخيبة الأمل وعدم إكمال تعليمهم بسبب الصعوبة.

في المقابل نجد أغلب أفراد مجتمعنا يتفنن في كسر قواعد البنية الصوتية والصرفية بل والدلالية للجمل العربية لتبسيطها – من وجهة نظره - لغير العربي الذي يعيش بين أكنافنا. وهذا أدى بدوره إلى هدم اللغة من الداخل لأهل اللغة، ناهيك عما التقطه غير العربي من الأساليب غير المتوافقة مع اللغة العربية من جميلات ومفردات لا تمت للعربية بشيء كقولهم «ركب شطه»، «انت في ريال»، «هطه فوق»، «فين انت روح»، «جيب عمره»، «سوي حج»، « ابويه وامي فيه عايش»... وغيرها من المفاهيم التي علقت باللسان العربي حتى أصبحنا في مأزق، الخروج منه شبه مستحيل.

ولقد عرج على الظاهرة في علم اللغة الاجتماعي، والتي تسمى adstratum وتوضيحها للقارئ بأنها تسهيل المستوى اللغوي للدخيل في المجتمع، ومن ثم إصباغ مستواه اللغوي على اللغة الحاضنة حتى يصبح جزءا من المستوى اللغوي.

والمشاهد والمتتبع لحديث أغلب المجتمع خصوصا في المطاعم والمقاهي وغيرها يجد العجب العجاب في المستويات اللغوية والذي هو نتيجة لما نتفاعل به مع غير العربي، بل وأشد من ذلك حتى اكتسبنا من بعضهم – هزة الرأس – أثناء الحديث كنوع من الانصهار اللغوي. والسؤال: إلى أين ستتجه اللغة العربية؟

ليست اللغة مجرد أصوات فيزيائية تنتقل عبر الأثير والوسط الناقل، لكنها أداة حفظ للمخزون الفكري الإنساني والذي ارتكز لسنوات على مبدأ المشافهة وليس الكتابة، فكيف سيتعامل الجيل القادم والأجيال التابعة له مع النص العربي في موروثنا الديني والأدبي والثقافي والاجتماعي؟ كيف سيتعامل جيلنا القادم مع المستويات المنحطة من الاستعمالات العربية غير المألوفة؟ هذه الظاهرة ليست جديدة الحال، فلقد دخل أبو الأسود الدؤلي يوما على ابنته – كما روى المازني - فقالت: ما أجملُ السماء! فأجاب أبوها: نجومها، فقالت له: أنا لا أستفهم يا أبتاه وإنما أردت التعجب، فقال: إذا أردت أن تتعجبي فافتحي فاك وقولي: ما أجملَ السماء! ومن هنا بدأ في وضع أسس النحو، لأنه علم أن الاختلاط بالإفرنج قد أخذ مأخذه في العرب. والحال كذلك في عصرنا الحاضر حينما اختلطت الأمم والشعوب وانصهر كثير من القضايا اللغوية التي تستلزم الدراسة الدؤوبة من المختصين باللغويات، ومن كل غيور لحفظ اللغة نقية من الشوائب. لا بد من وجود الحواضن لمثل هذه الدراسات لكي تسهم إسهاما جليا في حفظ اللسان العربي من العدول حتى لا تموت اللغة العربية كما مات غيرها من اللغات، ولقد ذكر تشارلز ليل سابقا أن اللغات قد تتطور وتندثر وقد يموت أغلبها بسبب عدم الاستعمال، أو عندما يعدل أهلها إلى تبني غيرها وهجرها. فلا نريد أن نساهم بهجر لغتنا ونحتضن غيرها.