أحمد الهلالي

تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى!

الثلاثاء - 21 نوفمبر 2017

Tue - 21 Nov 2017

يقول ليجان السكمري: ساقتني الأقدار إلى مجلس أبي عبدالله القاضي، فمنعني الحاجب من الدخول، دوى صخب النزاع، فخرج القاضي، وحين رآني ابتسم، وقال للحاجب هذا استثناء فدعه يدخل شاهدا، دخلت إلى المجلس، فأدهشني ازدحامه بأمة من الناس، لا أعرف منهم أحدا، كأنهم من عصر غير عصرنا، جلست نصف جلسة أتأملهم، بعضهم يلبس أكفانا بيضاء، على رأسه عمامة، وبعضهم أسبل عمامته وعقلها بشيء كالحية السوداء، وبعضهم يحرس بطنه بسكين معقوفة مزخرفة، وبعضهم حاسر الرأس، يلبس رداء مفصلا على صدره ومنكبيه، وله لسان طويل يتدلى من عنقه إلى سرته، وتحته إزار أزرق مخيط على أفخاذه، كل فخذ على حدة، قاطع صوت القاضي تأملاتي:

«يا صقر السنام، سبقك إخوتك ولم يبن أحد عن شيء، وأنت أكبرهم فماذا لديك في مجلس القضاء، واعلم أن كل ما يخرج من بين شفتيك لا يعود إلى صدرك، وأن الله علام سرك وجهرك، فاعدل في القول، ولا تطل»، فقام رجل ضخم الجثة، مهاب الطلعة، ملابسه خضر براقة، على صدره قطعة ذهبية كأنها نخلة وسيوف، حرك عينيه الحزينتين بتأن على وجوهنا، فكانت سوط عتاب، ومس عذاب، ثم رفعهما إلى السقف وقال بلسان عربي مبين:

«يا قاضي الحق، جابر الشق، راتق الفتق، نحكمك فيما شجر بيننا، وما على المقسطين من سبيل، هؤلاء إخوتي، بعضهم كان، وبعضهم ما يزال، بيننا عهود ومواثيق ينوء بحملها الكلم، أننا سلم لمن سالمنا، حرب لمن عادانا، وجدران مجلس أبينا (يعرب) في الكنانة لو تنطق شهدت، ولو تعقل حكمت، فكم أسلنا الحبر في الكتابة، وسكبنا العهد في العهد، حتى صار سبيكة صماء، وقلب أمة عصماء، ففتحت بيتي وخزائني، وأمرت أهلي وأبنائي بحب إخوتي، قارعت دونهم الضواري، وحطمت دون حماهم الصواري، وكنت في المراء أغالي، دونهم ولا أبالي، حتى وشى الصبح بغي الليالي، فجلسنا في مجلس الرغم بين صنوف العجم، أقاضي فارسيا خبيثا يعربد في أملاك إخوتي، يسعى مجاهرا بالنفاق ويبذر بين أبنائهم الشقاق، لكن بعض إخوتي

لم يكونوا ناسا، وصار تبرهم نحاسا، فمنهم من خاط الجبن فمه، ومازج الخبث دمه، وتجرأ آخرون على طعن الصدر بالغدر، فنقضوا كلامي، وسفهوا أحلامي، فخابوا حين أيد قسط العجم حجتي، وجلل بالعار إخوتي. أيها القاضي، جئناك لتميز المعادن، فانطق بالحق ولا تهادن».

فالتفت القاضي إلى إخوته «سمعتم ما قال، فمن يجيب؟»، لم تتحرك شفة، ولم ترتفع عين، ثم كر السؤال عليهم، فكانوا صما وعميانا، ثم كره ثالثة، فلما وجدهم كالتماثيل، قال: «اكتب يا كاتب، أنه في يوم (التغابن)، حضر صقر السنام وإخوته إلى مجلسنا، فتلى صقر السنام دعواه المكتوبة، ولم يجب إخوته، وإنا نلزمهم بتنفيذ ما بينهم من مواثيق، وإن لم يفعلوا، فما لهم على ماله وعتاده وحماه ومواقفه وأقواله من سبيل، إلا بما شاء، ونسأل الله لإخوته الشفاء، وثمرة الختام طيب السلام».

ahmad_helali@