اسمع منه قبل أن تحكم عليه!

الثلاثاء - 14 نوفمبر 2017

Tue - 14 Nov 2017

كثير من الناس ينخدع بالمظاهر الزائفة ويحكم على الآخرين سلبا أو إيجابا قبل أن يتكلموا أو يسمع منهم. للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله قصة طريفة رواها في حديث إذاعي أذيع سنة 1945، القصة تحكي واقع الناس في الانخداع بالمظهر الخارجي الزائف للإنسان والحكم عليه قبل أن يتكلم أو يسمع منه، وقد نشرها في كتابه «من حديث النفس»!

يقول الطنطاوي لما كنت أعمل في العراق سنة 1936 نقلت مرة من بغداد إلى البصرة أثر خصومة بيني وبين مفتش دخل الفصل فسمع الدرس، فلما خرج «نافق» لي فقال: إنه معجب بكتاباتي وفضلي، «ونافقت» له فقلت: إني مكبر فضله وأدبه، وأنا لم أسمع اسمه من قبل، ثم شرع ينتقد درسي فقلت له: ومن أنت يا هذا! وقال لي وقلت له.. وكان مشهدا طريفا أمام التلاميذ رأوا فيه مثلا أعلى من «تفاهم» أخوين وصورة من التهذيب والأخلاق! يقول الشيخ: ثم كتبت عنه مقالة كسرت بها ظهره، فاستقال و»طار» إلى بلده ونقلت أنا عقوبة لي من بغداد إلى البصرة!

يكمل الطنطاوي حديثه فيقول: وصلت البصرة فدخلت المدرسة، فسألت عن صف «البكالوريا» بعد أن نظرت في لوحة البرنامج، ورأيت أن الساعة لدرس الأدب، وتوجهت إلى الصف من غير أن أكلم أحدا أو أعرفه بنفسي! فلما دنوت من باب الصف وجدت المدرس، وهو كهل بغدادي على أبواب التقاعد، يخطب التلاميذ يودعهم، وسمعته يوصيهم كرما منه بخلفه الأستاذ الطنطاوي، ويقول هذا وهذا ويمدحني.. فقلت إنها مناسبة طيبة لأمدحه أنا أيضا وأثني عليه! ونسيت أني حاسر الرأس، وأني من شدة الحر أحمل معطفي على ساعدي وأمشي بالقميص وبالأكمام القصار، فقرعت الباب قرعا خفيفا وجئت أدخل، فالتفت إلي وصاح بي: إيه زمال وين فايت؟ (والزمال تعني الحمار في لغة العراقيين)! فنظرت لنفسي: هل أذناي طويلتان؟ هل لي ذيل؟ فقال: شنو ما تفتهم «يقصد ما تفهم»؟ أما زمال صحيح. وانطلق بـ»منولوج» طويل فيه من ألوان الشتائم ما لا أعرفه، وأنا أسمع مبتسما!

ثم قال الأستاذ: تعال لما نشوف تلاميذ آخر زمان، وقف إحك شو تعرف عن البحتري حتى تعرف إنك زمال ولا لا؟

يقول: فوقفت وتكلمت كلاما هادئا متسلسلا، بلهجة حلوة ولغة فصيحة، وبحثت وحللت وسردت الشواهد وشرحتها، وقابلت بينه وبين أبي تمام.. وبالاختصار ألقيت درسا يلقيه مثلي.. والطلاب ينظرون مشدوهين، ممتدة أعناقهم، محبوسة أنفاسهم، والمدرس المسكين قد نزل عن كرسيه وانتصب أمامي، وعيناه تكادان تخرجان من محجريهما من الدهشة، ولا يملك أن ينطق ولا أنظر أنا إليه، كأني لا أراه، حتى قرع الجرس! ثم قال الأستاذ: من أنت ما اسمك؟ قلت: علي الطنطاوي!

أخيرا.. من المؤكد أن موقف الأستاذ عندما علم أن الواقف أمامه الشيخ علي الطنطاوي كان لا يحسد عليه من شدة الندم والأسف على الكلام الذي تفوه به، وحتى لا تقع يا صديقي فيما وقع فيه ذلك الأستاذ البغدادي فتندم، احرص على ألا تحكم على الناس من مظهرهم وشكلهم الخارجي بل بمنطقهم وعقلهم!