تشكيل السائد

الأربعاء - 18 أكتوبر 2017

Wed - 18 Oct 2017

يثير اهتمامي تصرف البشر في مجتمع ما وأحاول أن أفهم ما هي الأسباب التي توحد بعض المظاهر والتصرفات لدى المجتمع، وكيف تتغير من جيل إلى آخر. فمثلا مظاهر اللباس في السعودية، وهو أسهل الأمور الملاحظة، تغيرت بشكل سريع، فلو شاهدنا صور الرجال السعوديين في الثمانينات الميلادية نرى الشنب الثقيل والثياب والأشمغة هي السائدة، وفي المقابل لو نظرنا إلى سائد اليوم، فالأمر تغير بشكل رهيب، والتغير هنا ليس تغيرا في معتقد بقدر ما هو تغير المظهر السائد والقبول بعادات جديدة من اللباس. وهذا يعد جزءا بسيطا من متغيرات كثيرة وكبيرة في المجتمع من مناسبات الأعراس، وابتعاث الدراسة، وسهولة السفر للسياحة وكثرة الذهاب إلى المطاعم وغيرها. هذه الأمور دعتني إلى أن أتساءل: من يؤسس العادات في المجتمع؟

إن الإنسان في سلوكه وتصرفاته - كأي كائن حي - يتأثر بالعدوى، والتأثير لا يحتاج إلى منطق أو تفسير عقلاني. والأمثلة التي تؤيد هذه النظرية كثيرة، ولكن لعلي أعرج على مثال استنكرته قبل أيام وهو نظرة أهل الفن لأعمال الرسام التشكيلي الهولندي فان جوخ التي كانت معدومة القيمة في حياته، ولكن بعد انتحاره أصبحت من أهم وأغلى الأعمال في العالم. فكيف تحول فن عديم القيمة إلى فن يقيم بملايين ويتلهف عليه البشر، إلا من خلال العدوى اللاعقلانية التي يتأثر بها الجمهور تقليدا لبعض النقاد. فأثر العدوى ليس فقط محصورا في الملبس والسلوك بل حتى في الذوق والآراء.

مهما كان الإنسان مستقلا وصاحب رأي إلا أنه يتأثر بمن حوله وتقوده عاطفته إذا ما كان ضمن جمهور أو مجتمع أو بلد، ويمكن قياس هذا التأثير وفهمه بما يسمى بالربيع العربي، ففي بداية عام 2011 لم يحتج الناس في دول عربية إلا لإعلام يهيج فكرة ثورية تبناها بعض من الجمهور العاطفي فانضم لها الملايين. والغريب أنها بدأت في دولة ثم انتقلت إلى دول مجاورة. والمحرك الأهم لهذه الثورات هي العدوى اللاعقلانية.

وقد فسر هذه الظواهر مؤسس «علم نفسية الجماهير» الفرنسي جوستاف لوبون بقوله «عندما يكون الفرد معزولا ربما يكون إنسانا مثقفا متعقلا، ولكنه ما إن ينضم إلى الجمهور حتى يصبح مقودا بغريزته وبالتالي همجيا. وهو عندئذ يتصف بعفوية الكائنات البدائية وعنفها وحماستها وبطولاتها أيضا».

إن هذه الأمثلة البسيطة وغيرها مما نشاهد بشكل مستمر توضح لنا كيف أن تصرف البشر وعاداتهم وحتى ذوقهم يتأثر بالعدوى. ولكن من يمتلك هذه القوة الهائلة في نشر العدوى؟ يملكها كما وضحها لوبون في كتابة «سيكولوجية الجماهير» من يمتلك إحدى الهيبتين: الهيبة المكتسبة وهي هيبة تكتسب بالمنصب والمال، أو الهيبة الشخصية وهي الملكة التي لدى بعض القادة الكبار في سحر الناس بكلماتهم وحضورهم وإطلالاتهم، إنها الهيبة المبنية على الكاريزما التي يمكن لمن يملكها أن يطوع جمهوره فيما يرى بأقل جهد وبلا منطق يسنده.

وبما أن العالم الواسع أصبح صغيرا بفضل وسائل الاتصال التي أصبحت في متناول الأيدي، فلا غرابة في التغييرات السريعة في مجتمعنا، وتأثر الكثير من الصغار بمن يملك الكاريزما من بيئة غير بيئتنا. لذلك فإننا مهما حصنا أنفسنا بمناهج ونصائح وتحذيرات، إن لم يكن الوالدان مؤثرين، والمعلم قدوة محبوبا، وإمام المسجد مفوها، والإعلام هادفا، فلا يمكن أن يكون لنا أثر في تشكيل عادات وسلوك الأجيال القادمة، فالتغيير بالعدوى لا بالمنطق والحجة.

قفلة: فهم العرب قديما أثر العدوى في تشكيل الشخصية فقالوا «قل لي من تخالل أقل لك من أنت».

@RMRasheed