اليتيم والكويتية

الاثنين - 09 أكتوبر 2017

Mon - 09 Oct 2017

إن قراءة القصص من الأساليب المحببة للقارئ، فمنها يستنبط الدروس ويتعرف على أحوال الآخرين وربطها بحاله. والقصة بشكل عام أسلوب قرآني كريم، فقد قال عز وجل عن كتابه في سورة يوسف «نحن نقص عليك أحسن القصص»، وكذلك أمر نبيه صلى الله عليه وسلم باستخدام هذا الأسلوب مع الصحابة والمخالفين له فقال تعالى في سورة الأعراف «فاقصص القصص لعلهم يتفكرون»، ومن هذا المنطلق أحببت أن أنقل قصة بسيطة ولطيفة كما هي بدلا من سرد الدروس المستفادة، فالقارئ لديه القدرة على استنباطها أكثر من قدرتي على شرحها.

في إحدى الإجازات الصيفية التي قضيتها في الولايات المتحدة الأمريكية، ركبت أنا وأخواتي وقريبة لنا في سيارة أجرة يقودها رجل أمريكي من العرق الأبيض كبير في السن يتجاوز عمره الستين سنة. بعد تحركنا من موقعنا، أراه ينظر في المرآة للخلف حيث تجلس أخواتي وقريبتي وهو مبتسم. أطال النظر، وذلك يزعج الرجل العربي، فقلت له مستنكرا «ما الأمر؟ هل خلفنا سيارة تلاحقنا؟» وقصدت أن يوقف نظراته المزعجة، ولكنه ضحك وأشار إلى قريبتي «لا. ليست سيارة بل هذه الفتاة ذكرتني بابنتي». سألته مستغربا «ابنتك؟!» أجاب بهدوء الواثق «نعم. ابنتي من الكويت» لاحظ استنكاري، فشرح لي قصته فقال «أنا شخص عرفت الحياة وأنا في بيت للأيتام، لا أعرف أبواي ولم أعش حياة أسرية، وتعرفت على فتاة في ذاك البيت عانت اليتم مثلي، أحببتها وقررنا الزواج بشرط ألا ننجب أطفالا، ولكن نتبنى أكبر عدد من اليتامى الذين فقدوا آباءهم وأمهاتهم. وعشنا كذلك وتكفلنا بتسعة أطفال من مختلف بلاد العالم، من أفريقيا وآسيا وأوروبا والشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية وأمريكا الشمالية. كل طفل من دولة مختلفة، أما التي من الكويت فكانت أثناء غزو صدام للعراق، وكنت ممن شارك في الحرب مع الجيش الأمريكي، ووجدنا طفلة فقدت والديها في الحرب وتكفلت بتربيتها أنا وزوجتي فأصبحت ابنتي الآن، وهي التي تشبه الفتاة التي في الخلف». سألته «كيف الشعور وأنت تربي أطفالا لا يرتبطون بك بالدم؟ وكيف شعورهم تجاهك أنت وزوجتك؟»، قال «لا أعرف شعور الآباء تجاه أبنائهم ولكن بكل تأكيد ليسوا أكثر مني حبا لأطفالي التسعة، أحبهم أكثر من نفسي وهم جزء مني حتى لو لم يربطنا بهم دم، أما شعورهم فهم محبون لي ولأمهم وأوفياء معنا إلى أبعد درجة، فهم يزوروننا أكثر من زيارة أبناء الجيران لذويهم، حتى إن بعضهم لم يغادر المدينة التي نحن فيها سعيا لخدمتنا. إنهم جميعا يشعرون بالفضل تجاهنا ويقولون إننا أحببناهم باختيارنا وربيناهم طوعا، ليس كحب الآباء الحقيقيين لأبنائهم فحبهم مفروض عليهم بحكم رابط الدم وتربيتهم لأبنائهم تربية واجبة لا طوعا. أنا وزوجتي علمنا أبناءنا أحسن تعليم ووفرنا لهم بيتا آمنا وسعيدا، والآن أصبحوا موظفين ناجحين وأرباب بيوت سعداء ولديهم أبناء وبنات لم يشعروا باليتم الذي شعرنا به».

نزلت من السيارة وأنا منبهر مما سمعت، وذكرتها لكثير ممن عرفت وها أنذا أكتبها لكم لعلكم تجدون فيها ما يستحق القراءة.

قفلة: يقول العملاق والأديب العربي نجيب محفوظ «وراء التضحية دائما إيمان قوي وليس مجرد اقتناع عقلي».

@RMRasheed