مرزوق تنباك

التعليم والأبوية التاريخية

الثلاثاء - 05 سبتمبر 2017

Tue - 05 Sep 2017

الفصل بين الثقافة والتعليم فصل شائك، فإذا كانت الثقافة محيطا عريضا يشمل نشاط الحياة كلها، فإن التعليم جزء أصيل من منظومة الثقافة ومكوناتها، والوعي بالحقيقة التي يقدمها التعليم في تاريخ المسلمين الطويل يساعد على فهم ما انتهى إليه النموذج الإسلامي الذي توارثته الأجيال، وأعطى صيغة شمولية على التعليم حتى اليوم، وهو طغيان مفهوم التلقي والتسليم بصحة ما يقول المعلمون، وأخذ المعلومات بلا مناقشة ولا حوار بين المعلم ومستمعيه، فما يقول المعلم والشيخ والواعظ لا يناقش في كثير من الأحيان، وقد أوجد ذلك شيئا من الموثوقية عند معشر المعلمين منذ القدم، ونمت فيهم الأنفة من المراجعة والتصحيح والاعتراض على ما يأتون به وما يعلمونه للناس، رغم ما يحتمل قولهم من الأخطاء.

وكان للمنبر الذي يعتلونه هيبة وجلال عند المستمعين سواء كانوا طلاب حلقات علم وتدريس أو مجالس وعظ وإرشاد، وهذا المنهج قد يكون من الجوانب الحسنة التي تجعل للعلم وللمعلم فضيلة واحتراما مستحقا في نفوس طلابه، وقد يكون تبجيل المعلمين حسنا ومناسبا في حال وزمان، وليس حسنا ولا مناسبا في أحوال أخرى وأزمان مختلفة.

وكلنا يعرف القول السائد في الثقافة العربية (من علمني حرفا صرت له عبدا) وغيره مما جاء في موروثنا، ومع الخلل الظاهر في مبنى هذا المثل ومعناه إلا أن الناس لا يأنفون من ترديده، ولم يفكروا بما يحمل من مناقضة لفضل العلم والتعليم الذي هدفه وغايته هو تحرير العقول وتنشيط المدركات الذهنية وقدح الأفكار والمعارف، وإحياء الوعي بحرية الإنسان وليس استعباد هذه المواهب الربانية والعقول البشرية التي خلقها الله حرة تميز الخير من الشر، والنافع من الضار، والصحيح الذي يجب اتباعه، والخطأ الذي يجب تركه والإعراض عنه.

وظيفة التعليم الحقيقية هي الانعتاق من العبودية للإنسان مهما كان حاله ومهما كان فضله على أخيه في أي موقع، والتعليم الذي لا يحرر المرء من كل أساليب العبودية للناس هو جريمة في حق البشرية وإثم كبير في تاريخها وقد تجاوزت البشرية كل أنواع العبودية المادية والأدبية ولم يعد مقبولا سماع رأي واحد لا اعتراض عليه.

في عمق الثقافة العربية والإسلامية عقبات كبيرة أهمها غياب الحوار والمناقشة والحرية العقلية التي تبين الصحيح من الزائف والنافع من الضار، وقد كانت نتيجة التقديس المفرط للمعلم حرمانا له قبل غيره من فرصة الرأي الآخر الذي قد يصحح معلوماته ويصحح منهجه الذي يسير عليه ويخفف من ثقته بما عنده حتى تستقيم الطريقة وتتضح الحقيقة عنده وعند غيره.

إن التعليم يعاني في العالم العربي المعاصر من الأبوية التاريخية التي ما زلنا نتمسك بها في كل مجالاته ومناهجه ولا سيما النظري منها، وسلطة المعلم وتقبل ما يقول وما يرى دون مناقشة ولا محاورة أنتج تكرار المعلومات وكثرة الأخطاء والسلبيات، فلم يحدث تطوير للمعارف ولا تصحيح للأخطاء التي تسربت إلى معارفنا عبر الأجيال وأصبحت مما يردده المعلمون في جميع المجالات في الدين وفي الأدب وفي الأخلاق والقيم، ولو أخضعنا موروثنا الثقافي للنقاش والحوار وتلاقح الأفكار وخففنا من قداسة ما يقوله المعلم وما يعرضه رجال الدين لتغير كثير مما نواجه من الأخطاء وخف التقليد الأعمى.

ويجب أن نؤكد أن هناك فرقا كبيرا بين احترام المعلم، أيا كان مكانه في سلم التعليم الذي يتوجه إلى الناس، سواء كان التعليم دينيا أو غيره، وبين مناقشة الفكر وإظهار الرأي وحرية التعبير التي هي الغاية من التعليم والهدف الأسمى للإنسان.