مولانا رفيع الدِّين المراد آباديّ.. أشواق عالِم هنديّ في الحجّ

السبت - 02 سبتمبر 2017

Sat - 02 Sep 2017

No Image Caption
الرحلة الهندية
تمتاز مشاهدات الحرمين الشَّريفين لمولانا رفيع الدِّين المراد آباديّ المتوفَّى سنة 1223هـ بأمرين مهمَّين: أنَّها وإنْ فاتها أنْ تكون أوَّل رحلة هنديَّة إلى الحرمين الشَّريفين، ذلك أنَّ جذب القلوب إلى ديار المحبوب للشَّيخ عبد الحقّ محدث الدَّهلويّ كانتْ أولى الرِّحلات الهنديَّة إلى الدِّيار المقدَّسة، سنة 997هـ، ويفيدنا سمير عبد الحميد الَّذي اضطلع بترجمة مشاهدات الحرمين الشَّريفين باسْم جديد هو الرِّحلة الهنديَّة إلى الجزيرة العربيَّة، ومِنْه استفدْنا حديث الأوَّليَّة = أنَّها وإنْ فاتها ذلك فإنَّها كانتْ أوَّل رحلة هنديَّة فَصَّلتِ القول وبسطتْه.

وهذه الرِّحلة ممتعة جِدًّا، ويستطيع قارئها أن يستوفيها في جلسة واحدةٍ، منذ خرج مولانا رفيع الدِّين مِنْ بلدته مراد آباد في يوم الثَّامنَ عشرَ مِنْ شهر المحرَّم الحرام سنة إحدى ومئتين وألف للهجرة، وحتَّى عاد إليها، بعد أنْ أتَمَّ الحجّ والزِّيارة، في غُرَّة ربيع الآخِر سنة ثلاثٍ ومئتين وألف، وكانتْ مُدّة الرِّحلة، كما قال، سنتين وشهرين وأسبوعين.

ومصدر الإمتاع فيها مردُّه ذلك القِدَم وتلك الأوَّليَّة، وأنَّ صاحب هذه الرِّحلة عالم دين مِنْ كبار العلماء، وأديب ينظم الشِّعْر ويختار مِمَّا يقرأه أجوده، فاعتاد القارئ أن تَمُرَّ به دائمًا أبيات مِنْ أجود ما نُظِمَ في الشِّعْر الفارسيّ، لمْ تستطع التَّرجمة إلى العربيَّة أنْ تُفقدها ما فيها مِنْ روعة وسِحْر، وعَرَّفَنا المترجم الجليل أنَّ مِنْ عادة الصَّفوة الممتازة مِنَ العلماء والأدباء الهنود، في ذلك العهد، أن ينظموا الشِّعْر ويكتبوا ويؤلِّفوا باللِّسان الفارسيّ، حيث كانتِ الفارسيَّة هي لُغة العِلْم والأدب، آنئذٍ، ولمْ يتهيَّأْ للأُرديَّة أنْ تغدو لُغةً للعِلْم والأدب، وإنْ كانتْ لسانًا للعامَّة مِنَ الشَّعب، فمهما عَرَضَ لمولانا أمرٌ كان الشِّعْر مأرزه الَّذي يأرز إليه، وإنْ تحدَّث إلى عالم مِنْ بني قومه في الهند أو في الحرمين الشَّريفين فسَرعان ما يحضر الشِّعر العذب الرَّائع، عَرَّفَ ببعض ناظميه وسكتَ عنْ آخرين، وفي كلّ الأحوال كانتِ الرِّحلة أدبيَّة مهما عُنِيَتْ بشؤون أخرى.

ولا يكاد يمضي القارئ إلَّا قليلًا في هذه الرِّحلة حتَّى يعرف أنَّ الحجّ إلى البيت العتيق غائرٌ في الوجدان الهنديّ، فمدينة سورت يدعوها الهنود «باب مكَّة»، وما مِنْ عالمٍ اتَّصل به في بلده إلَّا ويغلب عليه أنَّه حَجَّ غير مرَّةٍ وجاور وغَشِيَ حلقات العِلْم في مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة، وكان لطائفة مِنْ أهل الهند، وخاصَّةً في مدينة بتنهْ، صلة قديمة بالحجاز، يشدُّون إليه الرِّحال، مِنْ أجل الحجّ، ويُلْقُون عصا التِّرحال فيه، فيتَّصلون بأهل الحرمين الشَّريفين، ويتعلَّم نفرٌ مِنْهم اللُّغة العربيَّة، ويشتغل آخرون مِنْهم بالتِّجارة، ولا سيَّما في جدَّة، وتأكَّد لديهم، منذ حداثتهم، أنَّهم لا بُدَّ ذاهبون إلى المدينتين المقدَّستين، وإنْ والدَيْ الطِّفل الصَّغير، قبل أن يفكِّرا بختانه، وقبل أن يفكِّرا بتزويجه، كانا قدْ وطَّنا نفسيهما على أن يُرْسلا ابنهما إلى الحجّ حين يبلغ الثَّانية عشرة أو الثَّالثة عشرة مِنَ العمر.

كان مولانا رفيع الدِّين عالم دين ومتصوِّفًا، وإنَّنا لنُحِسُّ بأثر التَّصوُّف باديًا في أوصال رحلته، وإلى التَّصوُّف نعيد ذلك الاطمئنان والرِّضا اللَّذين جُبِلَ عليهما، مهما كانتِ الرِّحلة شاقَّةً صعبةً، وكان لهذا الرُّوح السَّمْح أثرٌ في أنْ كان كلُّ النَّاس حوله طيِّبين صالحين، ونراه في أشدّ أحوال الرِّحلة رُعْبًا لَمَّا أبحرتِ السَّفينة راضيًا مطمئنًّا، ألقَى همومه على مفرِّج الهموم، وتوكَّلَ على الله وأناب، وإنْ كان رجاؤه الَّذي يلهج به أبدًا أن يبلغ مكَّة المكرَّمة في الوقت المضروب، وأن يكتب له الله الحجّ إلى البيت الحرام، فإذا سكنتِ الرِّيح وتوقَّفتِ السَّفينة يمتح مِنْ مَعِين الإشراق، ويستحضر الشِّعْر، حتَّى تهدأ نفسه وتعود إليها طمأنينتها:

القُدرة الإلهيَّةُ تَمضي بالسَّفينة حيث يشاء الله

لا حول ولا قوَّة للمَلَّاح

فهو لا يملك مِنْ أمر نفسه شيئًا

سوى أن يُمَزِّق ثيابه جزعًا وهلعًا

ويتَّخذ سكون الرِّيح وتوقُّف السَّفينة أيَّامًا ذريعةً لضربٍ مِنَ التَّأمُّل في القرآن الكريم، ونراه يجلو لنا أحوال صنوف مِنَ النَّاس مِمَّن يَلَذُّ لهم السَّفر إلى الحرمين الشَّريفين، حتَّى إذا استوفى الكلام فيها، عاد فوصف لَذَّته هو وشوقه إلى تلك الدِّيار الشَّريفة

«بقي أنْ أتحدَّث عنْ حالي، وما جال في خاطري وفي بالي أثناء هذا السَّفر، فالحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على محمَّد رسول الله وعلى آله وأصحابه وسَلَّم.

الحمد لله فقدْ أحاطتْني النِّعم الإلهيَّة في هذه الرِّحلة، وغطَّتْني الأفضال الرَّبَّانيَّة، فلمْ تُصِبْني مصيبة، ولمْ أتعرَّضْ لتعبٍ أوْ مشقَّة، وكنتُ في جميع الأحوال معافى، وفي جميع الأوقات في راحة تامَّة.

(...)

إنَّ راحتي وسعادتي تكمن في الرِّضا بما حكم الله، ومَنْ صار مِنْ عادته الرِّضا بحُكْم الله، ارتاح على الدَّوام قلبه، واطمأنَّ فؤاده، ومَنْ لمْ يرضَ بقضاء الله، عاش مغموم القلب، مهموم الفؤاد، وقدْ قال الشَّاعر:

يا مَنْ أنتَ كُرَةٌ أمامَ مَضْرِبِ القضاء

تَحَمَّلْ في صمتٍ ضَرْبَ اليمين وضَرْبَ الشِّمال

فالَّذي قَذَفَ بك هنا وهناك

هو العالِم، العليم، علَّام الغيوب»

على أنَّ الرِّحلة، مهما اتَّصلتْ بالتَّصوُّف، مفيدة في غير ناحية، وأحسب أنَّ في ترجمتها إلى العربيَّة منافع عِدَّة، ولا زلتُ أذكر كلماتٍ سمعتُهُنَّ مِنَ العلَّامة المغربيّ الجليل عبد الهادي التَّازيّ، سنة 1423هـ، قال فيهنَّ: إنَّ مِنَ المسائل المتَّصلة برحلات الحجّ حركة الرِّياح! ولَمَّا رأى العجب في وجوه سامعيه، قال: إنَّ الرِّياح تعني الكثير لأولئك الحُجَّاج الَّذين اتَّخذوا السُّفُن – قبل عصر البخار – وسيلةَ سفرهم إلى الدِّيار المقدَّسة، فإذا تحرَّكتْ أمخرتِ السَّفينة، وإذا سكنتْ وقفتْ، وترى الحجيج يرفعون الأيدي إلى الله – تبارك وتعالى – أن يُحَرِّك الرِّياح حتَّى تجري سفينتهم، ويؤدُّوا مناسكهم.

وفي رحلة مولانا رفيع الدِّين المراد آباديّ رأيْنا السَّفينة توقَّفتْ، غير مرَّةٍ، لسكون الرِّياح، بلْ إنْ في البحر الأحمر جبلًا يُدْعَى «جبل الذِّكْر»، وما سُمِّيَ بذلك إلَّا لأنَّ الرِّياح تسكن فتتوقَّف السُّفُن، فيرفع المسافرون الأكُفَّ إلى الله – تبارك وتعالى – ويلهجون بالدُّعاء، أن يُرْسل الرِّياح، حتَّى تجري السَّفينة في البحر بأمر ربِّها، وما بين سكون الرِّياح وحركتها، كانتِ القلوب بين الرَّجاء واليأس، حتَّى إنَّ اليأس ليكاد يداخلهم لَمَّا سكنتِ الرِّياح في ميناء اللُّحَيَّة، فانقطع رجاؤهم في الوصول إلى جدَّة، وبعد أن استيأسوا جَرَتِ السَّفينة، على هون، حتَّى أرست في جازان، فعاكستْها الرِّياح، ولمْ تستطعْ لها دفعًا، فلمَّا وافتِ القنفذة سكنتْ، فأجمعوا أمرهم على أن يكملوا رحلتهم إلى مكَّة المكرَّمة على ظهور الجِمَال، فعسى أنْ تُبْلغهم سُفُن الصَّحراء غايتهم بعد أنْ خارتْ قوى سفينة البحر!

ونستطيع أنْ نتَّخذ مِنْ هذه الرِّحلة شاهدًا على ذلك الضَّرب مِنَ الشَّوق إلى الأماكن المقدَّسة، وثَمَّ قِطَعٌ لمْ تُذْهبِ التَّرجمة ما فيها مِنْ روعةٍ، فما ظنُّك بأصلها الفارسيّ؟! وكأنَّما وجيب مولانا رفيع الدِّين ناب عنْ لسانه فأدَّى ما تلجلج في صدره تجاه تلك المعاهد والآثار

«وتجلَّى لي جَمَال الكعبة، ألقيتُ عليها نظرةً واحدةً، فإذا بمتاعب السَّفر قدْ زالتْ، وإذا بمصائبه قدْ تلاشتْ، ولمْ أعدْ أشعر بما كنتُ أعاني مِنْ مشقَّة، نتيجة المشي على الأقدام بملابس الإحرام، تحت وهج الشَّمس المحرقة، وعلى الرِّمال الحمراء الملتهبة... إنَّ نظرة واحدة لجَمَال الكعبة المشرَّفة، أزالتْ عنِّي جميع متاعبي السَّابقة، وسوف تزول، بإذن الله، أيَّة متاعب لاحقة إلى أن يتوفَّاني الله ربّ العالمين، وجال في خاطري قول الشَّاعر:

إنَّ جَمَال الكعبة يقبل عُذْر مَنْ مَضَوْا في سبيله

فكمْ مِنْ أصحاب القلوب المضيئة احترقوا في صحرائه

ولن يستخفي علينا ما نزل به مِنْ ألوان الوجد، حين بلغ البلد الحرام، وذلك الإحساس الَّذي طغى عليه، فجعل يتصوَّر أنَّه يتتبَّع أثر مواضع أقدام النَّبيّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – وكعادته سرعان ما يلوذ بالشِّعر فلا يخذله:

كلَّما مضيْتُ على الطَّريق

أضع الرَّأس هناك

على أمل أنْ تكون قدْ مَضَتْ هناك قدماك!

والحقُّ أنَّ في رحلة مولانا رفيع الدِّين فوق ما قلتُ، وما راءٍ كَمَنْ سَمِع، فيها غير سكون الرِّياح وجريانها، وغير وصف الأمكنة الَّتي اجتازها. الحقُّ أنَّه ليس مِنَ المغالاة ولا السَّرَف في شيء أنْ أعتدَّ هذه الرِّحلة مصدرًا له شأنه يعتزي إلى مفتتح القرن الثَّالث عشر الهجريّ (1201-1202هـ)، لِمَنْ رام التأريخ الاجتماعيّ والثَّقافيّ للحرمين الشَّريفين، ويكفي أنْ نقول: إنَّ مولانا رفيع الدِّين ساق إلينا، قبل المستشرق الهولنديّ سنوك هرخرونيه، وصفًا مفصَّلًا لطُرُق التَّدريس وحِلَق العِلْم في المسجد الحرام، وزاد عليه بأنْ أطنب في الكلام وتَبَسَّطَ حِين بلغ حِلَق العِلْم في المسجد النَّبويّ الشَّريف، وعَرَفْنا، مِنْ هذه الرِّحلة البديعة، أسماء الجِلَّة مِنْ علماء الحرمين الشَّريفين ومفاتيهما، والكُتُب الَّتي تُدَرَّس، هنا وهناك، وأساليب العلماء في الوعظ والتَّدريس. وفي الرِّحلة حديث مهمٌّ عن مقامات المذاهب الأربعة في المسجد الحرام؛ أصل نشأتها، وما اتَّصل بها مِنْ مسائل في الفقه والخلاف، أحسبها حقيقةً بالتَّأمُّل، لا سيَّما أنَّ مولانا رفيع الدِّين استقى جملة مِنْ آراء علماء المسجدين الشَّريفين حول هذه المسألة، كما أنَّ في الرِّحلة بيانًا عن الصَّدقات الَّتي يرسلها بعض سلاطين المسلمين إلى أهل الحرمين الشَّريفين، وفيها شذرات عن الوظائف الدِّينيَّة وما اتَّصل بها في بداءات القرن الثَّالث عشر الهجريّ، ومسائل أخرى تتَّصل بالعُمْلة، والعادات والتقاليد، والأهالي، والهجرة إلى مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة... وهي مفيدة، بلْ مفيدة جدًّا، وأهمُّ مِنْ ذلك كلِّه أنَّ فيها مِنَ ألوان الشَّوق ما يجعلها حبيبةً قريبةً، ولا سيَّما تلك القِطَع الشِّعريَّة الَّتي كانتْ مِنَ الجَمَال بمكان، وحَسْبي أنْ أختم هذا الفصل بشيء مِنْها:

مضى شهر رمضان وولَّى وجاء عِيدُه

يا للأسف، مِئَة أسفٍ على ذهابه

والشُّكر، الشُّكر مئة مَرَّةٍ على مجيء عِيده!

عندما أردْتُ مغادرة مكَّة، متَّجِهًا إلى المدينة

ذهبْتُ لأودِّعَ بيت الله، كعبة النَّاس والملائكة

فجاءني صوتٌ قُدْسِيٌّ

مِنْ جانب الرُّكْن والمَقام والحِجْر وزمزم

يهتف بي، يقول لي: ليتني كنْتُ معك!

أنا أفخرُ بعينيَّ هاتين

فقدْ نظرتا إلى وجهك

وأرقصُ طربًا بِرِجْلَيَّ هاتين

فقدْ أوصلتاني إليك!

الأكثر قراءة