عبدالله الجنيد

الهوية الوطنية بين الأزمة والمشروع

الثلاثاء - 29 أغسطس 2017

Tue - 29 Aug 2017

الراديكالية اليمينية بشقيها الأصولي الديني (المسيحية، اليهودية، الإسلاموية السنية والشيعية، والهندوسية)، أو الوطنية العرقية (النازية الجديدة في أوروبا والولايات المتحدة) ترتكز على تفوق العرق والتفرد في تمثيل الإرادة الإلهية. ففي حين تكون مثل تلك الطفرات السلوكية قابلة للاحتواء عبر مكونات الثقافة الأوروبية القيمية كانتخاب ماكرون رئيسا لفرنسا، إلا أنها على غير ذلك الحال في المجتمعات النامية المفتقرة لمحددات الهوية الوطنية، حيث يتغول الموروث الديني والاجتماعي على ثوابت الهوية الوطنية وثقافتها.

عالمنا العربي والإسلامي يعتبر مثالا على غياب الهوية الوطنية نتيجة تراجع مكانة الثقافة الوطنية لصالح الهوية الروحية التي سهل معها أسلمة الصراعات أو طأفنتها. وقد تكون ظاهرة عسكرة الانتفاضة الفلسطينية الثانية على يد حماس والجهاد الإسلامي أحد أبرز الأمثلة على أسلمة الصراع السياسي، أما طأفنتها فإن العراق وسوريا واليمن تعد الأمثلة الأبرز على ذلك. وتلك الأزمات هي الأكثر قابلية للاستدامة لأنها نزاعات لا تقوم على حدود جغرافية بل اجتماعية. من هنا تأتي أهمية وضرورة التوافق على تحديد ارتكازات الهوية الوطنية بما يتجاوز المعتقد والعرق في عالمنا العربي ما بعد داعش، ويجب ألا ننشغل بالاتفاق حول ذلك مع العالم الإسلامي لاختلاف الأولويات. واليوم كلنا شاهد على خطورة غياب مشاريعنا الوطنية في فضاءات تقاطع المصالح بين المشاريع السياسية الكبرى في حال جوبهت باستراتيجيات تقليدية.

ففي حين مثل دخول قوات درع الجزيرة إلى البحرين احتواء سياسيا ناجحا، إلا أن الإعلان عن استراتيجية ضامنة لهوية وطنية جاء بعد مرور أكثر من ست سنوات على ذلك عبر سفير الإمارات العربية المتحدة في واشنطن يوسف العتيبة «إن سألت الإمارات والسعودية والأردن ومصر والبحرين ما هو الشرق الأوسط الذي يريدون رؤيته بعد 10 سنوات من الآن، فسيكون متعارضا في الأساس لما أعتقد أن قطر تريد رؤيته بعد 10 سنوات من الآن. ما نريد أن نراه هو حكومات علمانية مستقرة مزدهرة وقوية».

ما كان لمشروع الشرق الأوسط الجديد بلوغ مبتغاه لولا ثلاثة، أولا، غياب الهوية والثقافة الوطنية. ثانيا، شركاء متضامنون (إسرائيل، الولايات المتحدة، إيران، تركيا والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين عبر شركاء محليين، وثقافة مجتمعية حاضنة لموقف متماه والمشروع)، ثالثا، توفر محرك رئيسي عابر للحدود السياسية (مؤسسة الجزيرة والمال السياسي القطري، بالإضافة لغطاء سياسي من شركاء فاعلين).

ثقافتنا المجتمعية المتسامحة مع التجاوز على هويتنا الوطنية لصالح مشروع أسمى هو الأمة الإسلامية مثل عقب أخيل القاتل الذي فُعل بأقل كلفة سياسية في العراق، السودان، سوريا، اليمن، ليبيا، مصر والبحرين. فمجتمعاتنا قد كُيفت لاحتضان ثقافة الصحوة بشقيها السني والشيعي منذ ثمانينات القرن الماضي والذي أسقط قيمة الهوية الوطنية من المعادلة السياسية. لذلك سهل إقناع العالم بافتقارنا لمنظومة قيمية إنسانية قادرة على التصالح مع التاريخ والقبول بواقع أن أس كل صراعات الشرق الأوسط هي في أصلها ديني.

خلال أسبوع وفي غضون ثمانية وأربعين ساعة حدثت عمليات إرهابية من برشلونة إلى تركو في فنلندا معتمدة الدهس والطعن، تلك العمليات صاحبت ثلاثة أحداث كبرى، دخول عمليات هزيمة داعش في العراق وسوريا نزعها الأخير، بدء موسم الحج، وانطلاق موسم السياحة في أوروبا مصاحبا بانطلاق الدوريات الأوروبية.

بالتأكيد إن توظيف تلكم الوسيلتين (الطعن والدهس) في تلك الهجمات الإرهابية أعاد للأذهان تاريخ توظيفهما الأول في الضفة الغربية من فلسطين المحتلة. ومرة أخرى تتأكد حقيقة أن أسلمة أو طأفنة الصراعات يقود حتما لعسكرة الصراع، وفي هذه الحالة يوظف لتحقيق الاغتيال المعنوي للقضية الفلسطينية بعد نجاح عسكرة هوية الانتفاضة. ولنا أن نقارن بين قيمة الحراك المدني المقدسي مقارنة بالأدوات الأخرى.

محاربة الإرهاب صاحبها استدامة عدم الاستقرار وتأصل الهوية الطائفية والعرقية، لذلك يتحتم علينا الآن ونحن على عتبة هزيمة داعش إطلاق رؤية ترتكز على التصالح مع التاريخ وتجاوز إرث الطوائف والأعراق في تحديد الهوية الوطنية والمواطنة. كذلك، يجب على دولنا التي غادرت مربع المنهجية التقليدية التحلي بالشجاعة وتبني ما أعلنه السفير العتيبة. فالعلمانية أو الدولة المدنية ليست كفرا كما صورته المدارس المقتاتة على الهوية الوطنية بأسلمتها أو طأفنتها كيفما أو حينما شاءت.

إن فرضية احتواء كل مصادر التهديد في أي وقت أثبت التاريخ السياسي الحديث فشلها، لكن يستحيل تحقيق الاحتواء في ظل غياب الهوية والثقافة الوطنية.

@aj_jobs