التاريخ و1115هـ

الاثنين - 21 أغسطس 2017

Mon - 21 Aug 2017

اطلعت على علم التاريخ لأول مرة في الصف الرابع الابتدائي عندما كانت مادة دراسية، وكان علما لا يستهويني فلقد أجبرت على معرفة أسماء أناس لم أشاهدهم ولا أعرف عنهم إلا ما يكتب في مقرر المادة. واستخدمت كل أنواع الحيل لحفظ تواريخ هجرية وميلادية أشغلت عقلي الصغير. ومما أذكره من الحيل هو حفظي لسنة ميلاد الداعية المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب فهو من مواليد عام 1115هـ وما أزال حافظا لهذا بسبب الحيلة التي علمني إياها معلمي باستخدام يدي اليسرى فأرفع الخنصر والبنصر والوسطى وأجعل السبابة ممسكة

بالإبهام فيظهر لي شكل مقارب لـ 1115. هكذا كانت مادة التاريخ بالنسبة لي في فترة المدارس، مادة جافة أحفظها لكي أحصل على درجة مميزة ثم أنسى معظمها إن لم يكن كل تفاصيلها بعد إجازة الصيف.

كبرت قليلا ودخلت مرحلة المراهقة، فرجعت لعلم التاريخ من خلال الرواة والدعاة و«الحكواتية» فسمعت قصص وأمجاد الخلافة الراشدة والدول الأموية والعباسية والإخشيدية وما تلاها. كنت أستمتع ببطولات وصولات وجولات أجدادنا والأوائل العظام وأفخر بهم. وبعد الانتهاء من سماع تلك القصص ظننت أني أدركت واستوعبت تاريخنا فأحببته وتعلقت بأمجاده، لم لا وقد عرفت أسماء كثير من الأبطال المؤثرين وسمعت عن خصالهم وحفظت نسبهم وأصلهم، أليس هذا كافيا للادعاء بمعرفتي بالتاريخ؟

تجاوزت مرحلة المراهقة ودخلت مرحلة الشباب والحماس، فزاد اهتمامي بحاضري أكثر من لهفي بالتاريخ، فحاضري هو ما سيحفر لي اسما بطوليا في التاريخ يفتخر به أبنائي. فأجدني تارة مهتما بالقضايا الاجتماعية وقيم المجتمع، وأحاول أن أستوعب الخلل وطرق إصلاحه، ثم ألتفت إلى الأمور الاقتصادية، ومحاولة معرفة الأسباب التي تجعلنا أمة متبوعة لا تابعة، وتارة أحاول أن أفهم علاقاتنا الدولية والإقليمية مع الآخرين وكيف أن الخلافات السياسية والإعلامية التي يستخدم فيها الغطاء الديني أشغلتنا عن قضايانا التنموية. أغوص في كل تلك

القضايا بمعزل عن التاريخ، فالتاريخ بالنسبة لي كله أمجاد وبطولات ولا علاقة له بمستقبلنا.

وفي الآونة الأخيرة، وبعد تجاوز مرحلة الحماس المفرط والعاطفة الجياشة، أدركت أن كل مشاكلنا ممكن تجاوزها وحلها بعلم التاريخ. فلقد أيقنت أن دراستنا للتاريخ دراسة بعيدة عن أهدافه الحقيقية، فنحن فعليا نعرف التاريخ ولكن لا ندرسه. نعرف التاريخ لنتباهى به ونحفز أنفسنا على استعادة الأمجاد لا للاستفادة منه والاتعاظ من دروسه.

ألم يقل الله سبحانه وتعالى في سورة يوسف (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)؟ ففي مراجعتنا للتاريخ، لا نتطرق للخلافات وأسباب السقوط فنقول دائما «إنهم قوم اجتهدوا وأفضوا إلى ما قدموا» ولا نستعرضها ونحللها ظانين أننا نتفادى المشكلة بدلا من الاستفادة منها والتأكد من عدم تكرارها. فكل ما تطرقنا لفتنة قديمة أو حرب سابقة نسمع من يقول ناصحا «تلك دماء طهر الله منها أيدينا فلا نلوث بها ألسنتنا»، معتقدين أنها سبب للتلوث لا دعوة إلى التحليل والتفسير لجذور مشاكل حالية. إن أحوج ما نحتاجه الآن هو إعادة النظر في دراسة التاريخ، فالدراسة الحقيقية تعني التحليل العميق للماضي، وفهم دقيق لأسباب النجاح والخسارة في كل المجالات.

إننا دائما ما نحمل الأعداء كل مشاكلنا وإخفاقاتنا فهم يستمرون في التآمر علينا، وهذا صحيح، ولكن كل ما يقوم به الأعداء هو دراسة تاريخنا دراسة عميقة وبناء الخطط مستغلين معرفتهم بمكامن ضعفنا وتدمير مصادر قوتنا. نعم فالغرب يدرس التاريخ للاستفادة منه في كل مجال، فالدول لكي تتطور وتتسيد تدرس تاريخ الحضارات الأخرى وتحلل نهوض وسقوط الأمم عبر التاريخ، وكذلك الشركات التجارية تقوم بدراسة تاريخ المنافسين والناجحين والخاسرين، وحتى الجامعات والمدارس فهي تدرس التاريخ الاجتماعي والتربوي لتتمكن من التطوير المستمر. وأكبر شاهد على ذلك هي الميزانيات الكبرى التي يرصدها الغرب لمراكز الدراسة والبحوث التي تعتمد دراساتها بشكل كبير على علم التاريخ.

قفلة: مقولة «لا تعد اختراع العجلة» لا تنطبق فقط على الصناعة، بل تنطبق على كل قضايانا، وعدم إعادة اختراع العجلة يتطلب دراسة للتاريخ لا معرفته فقط..

RMRasheed@