حمد الجاسر والحجّ

الاحد - 20 أغسطس 2017

Sun - 20 Aug 2017

قلتُ مَرَّةً: إنَّ الشَّيخ حمد الجاسر استأنف القول في الجزيرة العربيَّة، بعد أنْ أتى عليها حين مِنَ الدَّهر طويلٌ، درستْ في أنحاء كثيرة مِنْها معاهد العِلْم، إلَّا ما كان مِنْ أمر الحرمين الشَّريفين، حيث البيت العتيق والحجّ، وحيث المسجد النَّبويّ الشَّريف. كان الشَّيخ غيورًا على تراث الجزيرة العربيَّة وآثارها وثقافتها، يضع الكُتُب، وينقِّب عن المخطوطات، ويحقِّقها، ويضرب في أثناء الجزيرة العربيَّة يتتبَّع المواضع والمسالك، ويقصد نواحي كثيرة مِنَ العالَم العربيّ والإسلاميّ، وأوربَّا، ولا هَمَّ له إلَّا الظَّفَر بمخطوطة نادرة تجلو لنا جانبًا معتمًا مِنْ تاريخ الجزيرة العربيَّة وثقافتها، واتَّصلتْ أسبابه بأعلام العلماء في الشَّرق والغرب، يسألهم عنْ هذا الكِتاب وذلك المخطوط، حتَّى إذا تَمَّ له ما أراد، أنشأ لهذا الغرض مجلَّة العرب، وكانتْ، بحقٍّ، «مجلَّة تُعنَى بتاريخ العرب وآدابهم وتراثهم الفكريّ».

عُرِفَ هذا العلَّامة الجليل بجغرافية الجزيرة العربيَّة، واختُصَّ بأنساب قبائلها وأُسَرها، وله في ذلك جمهرة واسعة مِنَ الكُتُب، وامتدَّتْ عنايته إلى غير ناحية مِنْ نواحي المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، فحَثَّ علماءها مِمَّن يَعْتَزُون إلى هذه النَّاحية أوْ تلك، على التَّأليف الجغرافيّ، فلمَّا أجابوه، تألَّفَ المعجم الجغرافيّ للمملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، فأتَمَّتْ هذه الجمهرة الواسعة، ما بدأه أبناء الجزيرة العربيَّة، في تاريخها القديم، مِنْ أمثال أبي عليّ الهَجَرِيّ، والحسن الهَمْدانيّ، وإنَّنا لَنَقْرأ في الكلام الَّذي ساقه الشَّيخ الجليل في أبي عليّ الهجريّ، يومَ أخرج التَّعليقات والنَّوادر مقدار حماسته أنْ تَحَدَّرَ إلينا قَدْرٌ واسعٌ مِمَّا كتبه عن الجزيرة العربيَّة؛ تاريخها، وآثارها، ولُغتها، في أواخر القرن الثَّالث وأوائل القرن الرَّابع الهجريَّين، حتَّى إذا وقف على أسماء كوكبة مِنْ رواة ذلك العهد، مِمَّن ترتفع أنسابهم إلى قبائل مِنْ هذه الجزيرة العربيَّة، لمْ يُخْفِ العلَّامة الجليل فرحه وألمه؛ فرحه بأنَّ مِنْ حَمَلَة العلوم العربيَّة في ذينك القرنين نفرًا مِنْ أبناء هذه الأرض، وألمه أنْ سكت التَّاريخ عنهم، وقعدتِ الدُّول الَّتي تعاقبتْ على الحُكْم عنْ أنْ تُوْلِي الجزيرة العربيَّة بعض ما يستحقُّه مقامها في تاريخ العربيَّة والإسلام.

ترك الشَّيخ خلفه تراثًا عظيمًا مِنَ الكُتُب، والتَّحقيقات، وخَلَّفَ وراءه مئات الفُصُول والمقالات في التَّاريخ، والبُلدانيَّات، والمَسالك، والآثار، والأنساب، واللُّغة، والأدب، والاجتماع، والحضارة، ولا يزال المركز الثَّقافيّ الَّذي يحمل اسمه يُوالي نشْر جمهرة مِنْ كُتُبه وآثاره، فيتملَّكنا العجب لكثرة ما أنشأ الشَّيخ في ضُرُوب المعرفة الَّتي انتصب لها، وكان مِنْ دأبه أنَّه يُشْبِع الموضوع الَّذي تَصَدَّى له، بحثًا، ودرسًا، وتفتيشًا، وتحقيقًا، وبحَسْب القارئ أن يطَّلِع على المقدِّمات الَّتي بَسَطَ فيها القول لطائفة مِنَ الكُتُب الَّتي عُنِي بتحقيقها ونشْرها، وعلى النَّهج نفسه كانتْ مؤلَّفاته وفُصُوله الَّتي نشرها، أوَّلًا، في صحيفة أُمّ القرى، إبَّان الطَّلب في مكَّة المكرَّمة، ثُمَّ لَمَا اشتدَّ عُوده، جعل ينشر بحوثه الجغرافيَّة والتَّاريخيَّة في مجلَّة المنهل، ثُمَّ ما هي حتَّى عرفتْ مجلَّات المجامع العِلْميَّة واللُّغويَّة اسْم الشَّيخ باحثًا، ومحقِّقًا، ومُعَقِّبًا، ودَلَّ على عُلُوِّ كعبه، فيما اتَّجه إليه، وعرف له العلماء والمحقِّقون مقامه في التَّاريخ والبلدانيَّات واللُّغة، وبخاصَّة ما اتَّصل بتاريخ الجزيرة العربيَّة وثقافتها.

اتَّصَلَ القُرَّاء والدَّارسون بكُتُب الشَّيخ، وقفوا على كتابيه بلاد ينبع، لمحات تاريخيَّة جغرافيَّة وانطباعات خاصَّة، ومدينة الرِّياض عبر أطوار التَّاريخ، وقرأوا مصنَّفاته في أنساب القبائل، وعرفوا أنَّ العلَّامة الجليل اتَّسعتْ عنايته لغير ناحية مِنْ نواحي الجزيرة العربيَّة، عُنِيَ بتراث مؤرِّخي مكَّة المكرَّمة، فأخرج كِتاب البرق اليمانيّ، للقُطْب النَّهرواليّ، واهتمَّ بتاريخ المدينة فأخرج رسائل في تاريخ المدينة، والمغانم المطابة في معالم طابة للفيروزآباديّ، ووضع في سراة غامد وزهران، وفي شمال غرب الجزيرة، إلى آخر ما صَنَّف في الخيل، واللُّغة، والمعادن، والرِّحلات، والمذكِّرات.

لكنَّ للشَّيخ، فوق ذلك، عنايةً بأدب الحجّ وثقافته، وليس مِنَ السَّرَف في شيء أنْ نعتدَّ حمد الجاسر مِنْ أكثر العلماء العرب والمسلمين تصنيفًا في شأن الحجّ، حتَّى إنَّنا نستطيع أنْ نعُدَّ مجلَّته الجليلة العرب مرجعًا أصيلًا لتاريخ الحجّ وثقافته، مثلما هي مستودع بحوثه في تاريخ الجزيرة العربيَّة، وبخاصَّةٍ المدينتان المقدَّستان، ولا يكاد يخلو عددٌ مِنْ أعدادها مِنْ أثرٍ ما إنْ لمْ يكنْ عن الحجّ، فهو عن مكَّة المكرَّمة، أو المدينة المنوَّرة، وإنْ لمْ يتَّصلْ بالرِّحلات الحجازيَّة، فهو عن طُرُق الحجّ والمسالك إليه.

والحقُّ أنَّني لمْ أكنْ لأعرف، مِنْ قَبْلُ، سُهْمة الشَّيخ في هذا الضَّرب مِنَ الكتابة والتَّأليف، صحيحٌ أنَّني قرأتُ، منذ سنوات طويلة، كتابه ملخَّص رحلَتَيْ ابن عبد السَّلام الدِّرعيّ المغربيّ، وهذا العرض والتَّلخيص مِمَّا نشرتْه دار الرِّفاعيّ سنة 1402هـ=1982م، ثُمَّ عرفْتُ أنَّ الدَّار نفسها نشرتْ ملخَّص رحلة أبي سالم العيَّاشيّ، لكنَّني لمْ أكنْ لأعرف أنَّه جعل لرحلات الحجّ مقدارًا عظيمًا مِنْ عنايته، حتَّى اتَّصلتْ أسبابي بمجلَّة العرب، حين هيَّأَ لي الله – تبارك وتعالى – الوقوف على أعدادها كلِّها، وإذا بي إزاء مَعْلَمةٍ تاريخيَّةٍ وثقافيَّةٍ وأدبيَّةٍ، هي بعض أيادي علَّامة الجزيرة العربيَّة على تاريخنا وثقافتنا.

زار الشَّيخ حمد الجاسر الجزائر عام 1392هـ، وغَشِيَ المكتبة الوطنيَّة فيها، وكان أهمَّ ما يرجوه أن يظفر بجملة صالحة مِنْ كُتُب الرِّحلات الحجازيَّة، ولمْ يَصُدَّه تحذير طبيب العيون عن بُغْيته، فأنشأ يقول:

دخلْتُ المكتبة، رغم تحذير طبيب العيون لي مِنْ كثرة المطالعة، ورغم عزمي على إراحة نظري، إذْ لمْ أستطعِ الصَّبر على عدم القراءة، مع أنَّني كنتُ مرهقًا مِنْ أثر التَّعب، ولكنَّني كثيرًا ما أجد فيها كلَّ راحة. وسألْتُ أوَّل جالسٍ قابلتُه داخل المكتبة مِنْ موظَّفيها: هلْ لديكم قِسْم للمخطوطات؟ وكان يقف بقربه سيِّدة فأخبرها بما سألتُ عنه، فالتفتتْ إليَّ مستوضحةً ثُمَّ أجابتْ باللَّهجة المصريَّة: (أُمَّال؛ عندنا كلّ حاجة) وفخَّمتِ الميم. فطلبتُ مِنْها إرشادي إلى ذلك القِسْم وإطْلاعي على (الفهرس) الخاصّ به، فبعثتْ معي مَنْ أبلغني ما أردتُ... وكانتْ كُتُب الرِّحلات إلى الحجّ أهمَّ ما أبحث عنه، فرأيتُ في (الفهرس) بين ما هو معروف مِنْها كرحلات عبد الغنيّ النَّابلسيّ، ورحلة أحمد بن ناصر الدِّرعيّ، ورحلة كُتِبَ عنوانها (رحلة المجاجي)... و(رحلة اليوسيّ).

فلمَّا آبَ الجاسر إلى أرض الوطن، جعل مِنْ أوَّليَّات ما يسعى إليه في العرب عرض أشهر رحلات الحجّ وتلخيصها، ولك أنْ تَعْرِف أنَّ مِنْ تلك الرِّحلات ما كان مخطوطًا، ومِنْها ما كان مطبوعًا طباعةً حجريَّةً عتيقةً، واستوفَى الشَّيخ في عرضه وتلخيصه مقاصد تلك الرِّحلات، حتَّى لَيُجْزِئك عمله عنْ قراءة أُصُول تلك الرِّحلات، بلْ إنَّ نفرًا مِنَ القُرَّاء – وأنا واحدٌ مِنْهم – لمْ يَعْرِفُوا بعض تلك الرِّحلات إلَّا بعرض الشَّيخ وتلخيصه!

ولقدْ نَعِمْتُ مِنْ تطوافي في مجلَّة العرب بقراءة عروض الشَّيخ وملخَّصاته لجمهرة واسعة مِنَ الرِّحلات الحجازيَّة؛ قرأتُ سلسلة فُصُوله الَّتي دعاها «في رحاب الحرمين مِنْ خلال كُتُب الرِّحلات إلى الحجّ»، وكان مِنْ بين عُرُوضه ومُلَخَّصاته: رحلة العبدريّ (ت بعد 700هـ)، ورحلة البلويّ (ت نحو 765هـ)، ورحلة أبي سالم العيَّاشيّ (ت 1090هـ)، ورحلة ابن ناصر الدِّرعيّ (ت 1129هـ)، ورحلة عبد المجيد المناليّ (ت 1163هـ)، ورحلة الهشتوكيّ (ت 1127هـ)، ورحلة التَّامراويّ (ت 1285هـ)، ورحلة محمَّد بن عثمان السُّنُوسيّ (ت 1318هـ)، ورحلة محمد الطِّيِّب بن كيران (ت 1314هـ)، ورحلة الشَّاكريّ (ت 1331هـ)، ورحلة البكريّ، ورحلة التَّميميّ، ورحلة الوزير الشَّرقيّ إسحاق المغربيّ. وعلى عناية الشَّيخ بالرِّحلة إلى الحجّ فإنَّه اختصَّ ما كان للرَّحَّالين الأندلسيِّين بفضل عناية، ولن يستخفي علينا أنَّ شغف الشَّيخ بكُتُب الرِّحلة إلى الحجّ مَرَدُّه عنايته المبكِّرة باستئناف القول في الجزيرة العربيَّة، لا سيَّما ما لمكَّة المكرَّمة وبيئة الحجّ مِنْ مقام عظيم في ترقِّي العلوم العربيَّة والإسلاميَّة.

«ولقدْ كانتْ مكَّة – وما تزال – نقطة التقاء ومركز تَجَمُّعٍ لجميع المسلمين مِنْ مختلِف الأقطار الإسلاميَّة، ولهذا كانتْ مِنْ أقوى مراكز نشْر الثَّقافة بين تلك الأقطار، وكانتْ صِلة وصلٍ بين علماء الأقطار الإسلاميَّة في شرق البلاد وغربها، وشمالها وجنوبها، في مختلِف العصور الماضية، ومع انصراف العلماء وغيرهم عن الجزيرة العربيَّة بعد الهجرة بما يزيد على نصف قرن مِنَ الزَّمان، أيْ منذ انتقال مركز الخلافة مِنْها، وبانتقال الخلافة والسُّلطان والدَّولة، تنتقل الرَّغبات، وتتَّجه الأبصار وتتركَّز الآمال حيث يوجد المُلْك والسُّلطان، اللَّذان بهما تتيسَّر سُبُل الحياة وتحصل الطُّمأنينة والهدوء في كنفهما – مع ذلك الانصراف فإنَّ مكَّة المكرَّمة لها مكانة دينيَّة في نفس كلِّ مسلم تجعلها دائمًا – ما بقي المسلمون – مطمح أنظارهم، فهي – فضلًا عنْ كونها تضمُّ مشاعر الحجّ – وفيها بيت الله المعظَّم الَّذي فرض الله حجَّه على كلّ مسلم بالغ قادر = هي ملتقًى للمسلمين مِنْ مختلِف أقطارهم، وهم بحكم دينهم الحنيف – لا يمكن أن ينصرفوا عنها، ولهذا فقدْ أصبحتْ منذ جاء الإسلام مركزًا للثَّقافة الإسلاميَّة العربيَّة، يجتمع فيها مِنَ العلماء في كلّ عام ما لا يجتمع في أيَّة مدينة أخرى مِنْ مُدُن الإسلام.

وكان العلماء في العصور الأولى يقصدونها مِنْ مختلِف أقطار العالَم الإسلاميّ ليؤدُّوا رُكْنًا مِنْ أركان دينهم أداؤه فرض، وليضيفوا إلى ذلك أمورًا مِنْ أهمِّها التَّزوُّد بزاد العِلْم والمعرفة، فالعالِم يفد إليها مِنْ أقصى المشرق أو المغرب فيلتقي بعالِمآخَرَ مِنْ بلاد بعيدة عنْ بلاده فيحصل مِنْ هذا الالتقاء تقارُب وتفاهُم، واستزادة عِلْم، وامتداد لروافد المعرفة، وانتشار للأفكار بين مختلِف الأقطار الإسلاميَّة».

وليس ذلك كلَّ ما تَعَلَّقَ بالحجّ، فللعلَّامة الجليل اختصاص قديم بتحديد المواقع والأمكنة في الجزيرة العربيَّة، وأهمُّ ما نشره الشَّيخ كِتاب «المناسك» وأماكن طُرُق الحجّ ومعالِم الجزيرة، سنة 1389هـ، وسواء كان الكِتاب لأبي إسحاق الحربيّ، كما رَجَّحَ الشَّيخ، أوْ كان لتلميذه ابن وكيع، كما رَجَّحَ الدَّكتور عبد الله الوهيبيّ، فإنَّ هذا الكِتاب مَعْلَمة واسعة ونادرة في تحديد المواضع والأمكنة في جزيرة العرب، ولا سيَّما المسالك والدُّرُوب الَّتي يسلكها الحجيج إلى مكَّة المكرَّمة، وما قصَّة تشوُّف علَّامة الجزيرة العربيَّة لمخطوطة هذا الكِتاب ثُمَّ نشرها إلَّا فصل مِنْ فُصُول قصَّته الكبرى في «استئناف القول في الجزيرة العربيَّة».

الأكثر قراءة