فلسفة اللقافة في مجتمعنا

السبت - 12 أغسطس 2017

Sat - 12 Aug 2017

من المتعارف عليه إقليميا أن لكل مجتمع قيما محددة، ومبادئ راسخة قد تتفاوت من فرد لآخر، ومن بقعة لأخرى، لكنها خصوصية لا يشاركهم فيها أحد. من هذه القيم الاجتماعية قيمة كيف تبدأ الحديث مع شخص للوهلة الأولى، أو ما يطلق عليه (إزالة الكلفة) أو (breaking the ice)، وهو أسلوب راق في إدارة دفة الحديث بين شخصين في أول لقاء بينهما. فتجد الفرد في الغرب – مثلا - إذا جلس إلى جانبك لا يسألك مباشرة، بل يتطرق إلى موضوع عام فيقول «اليوم، الطقس جميل جدا»، أو «الزحام في الشوارع يزداد يوما بعد يوم».. وما إلى ذلك، فتبدأ بالرد عليه من باب تبادل أطراف الحديث.

أتذكر وأنا في رحلة بالطائرة إلى فرنسا، كنت جالسا أقرأ كتابا في انتظار إقلاع الطائرة، وفي هذه الأثناء جلس إلى جانبي أخ سعودي يبدو في العقد الرابع، ثم ما لبث إلا قليلا (كما قيل: سكت دهرا ونطق كفرا) حتى نظر إلي وإلى الكتاب في يدي ثم قال: «الثقافة مقطعة نفسها»! وهذا حسب تحليل الخطاب اللغوي أسلوب تهكمي، بدوري التزمت الصمت ولم أرد عليه، بل نظرت إليه وابتسمت، لكن يبدو أنه لم يهدأ له بال فبادرني بسؤال ذري: إلى أين مسافر؟ فرددت عليه بإجابة نووية: إلى الحبشة.. فسكت صاحبنا ولم ينطق بأي حرف إلى أن وصلنا مطار شارل ديجول بباريس، حتى إن المضيفة كانت تريد مناولتي كأسا من الماء، وكانت بعيدة، فلم يساعدني في ذلك من شدة الغضب، لأن إجابتي كانت قاصمة!

ربما كانت إجابتي قاسية قليلا، لكنها هي الإجابة الوحيدة التي تشفي لقافة البعض، لأنه لا يعرف كيف يسأل السؤال الصحيح، فالطائرة مقلعة إلى فرنسا، وصاحبنا يسأل عن وجهتي؟

إن موضوع إزالة الكلفة ليس بهذا الأسلوب، وإنما بأسلوب أكثر رقيا، وأكثر مدنية، وليس بالهجوم على الأفراد وعلى خصوصياتهم من أول وهلة لكي نفتح باب الحوار. من المعلوم أيضا بأن من أصعب الأمور في الحياة هي البدايات، فكلما كانت البداية صحية ونقية استمر أثرها الإيجابي لنهاية المطاف.

لكن تغيب عن الكثير من أفراد المجتمع هذه المفاهيم، لذلك يظنون أن نفس الأسلوب الذي يسقطه على أخيه وابن أخيه ومحيطه الضيق، يمكن إسقاطه على جاره وعلى أي فرد من أي دولة، ضاربا بذلك أعراف الناس وميولهم وإلى ما ذلك عرض الحائط. لذلك يتوجب على الفرد أن يتنبه إلى الشخص الجالس إلى جانبه، وأن يقوم بدراسة حالته قبل بدء أي موضوع، خصوصا إذا كنت في البنوك أو المحاكم، لأن أغلب مرتاديها إنما أمورهم تخص المال أو المنازعات وموضوع «إزالة الكلفة هنا» قد يزيل عينك من مكانها بضربة خطافية!

لعلي أختم بقصة لقافة حدثت لي وأنا على مقاعد الدراسة في مرحلة البكالوريوس بالجامعة، وأتذكر بأن المادة كانت «مدخل إلى اللغة»، وكنت جالسا على أحد المقاعد وله طاولة ملتصقة، بإمكان الطالب تحريكها متى ما شاء، التفت وإذا مكتوب على الطاولة بالعربي «ارفع الطاولة لو تكرمت»، فرفعتها - من باب اللقافة طبعا - فوجدت مكتوبا بالأسفل عبارة «رجعها يا ...»، - فأرجعتها بالطبع-، وتعلمت درسا في حينها بأن اللقافة ليست بالأمر المحمود.

الأكثر قراءة

جميلة عادل فته

رجال الأمن.. رجال