أجنحة الوطن.. الطائرة حجاز والطيار سعودي

السبت - 12 أغسطس 2017

Sat - 12 Aug 2017

«هؤلاء السعوديون العرب ذوو الرؤوس البالية لا يمكنهم الطيران».

*من مذكرات د. هاري سنايدر عن اعتراض بعض الأصوات في واشنطن على شراكة مع المملكة لتأسيس نواة سلاح الطيران.

ربما كانت ولادة الحلم بالتأسيس الخجول لجمعية أهلية في مكة المكرمة تحت اسم «جمعية الطيران العربية»، هدفها تشجيع الطيران في مجتمع لم يعرف سوى بضع سيارات معدودة في مدن المملكة الكبيرة فقط، ويكفي أن نعرف أنه لم يكن في البلاد سوى مدرسة ثانوية واحدة لم يزد عدد خريجيها عام 45 عن أربعين طالبا.

في منتصف الثلاثينات ميلادية تم ابتعاث عدد من الطلاب المتفوقين لدراسة الطيران الحربي في إيطاليا، ويروي العم محمد رقام صاحب الذاكرة التاريخية في لقاء له مع الدكتور سعيد السريحي أن إحدى هذه البعثات واجهت موقفا في غاية الغرابة، ففي يوم تخرجهم، أنشدت كل الدفعات نشيد بلادها الوطني، في حين أن المملكة في تلك الأيام لم تكن قد اعتمدت نشيدها الوطني المعروف اليوم، فما كان من أحد أبنائنا الخريجين إلا أن اتفق مع زملائه بسرعة على أن ينشدوا أنشودة شعبية يقول مطلعها:

يا أبونا جانا الذيب، يا عيالي لا تخافون!

وصفق لهم الحاضرون وأعجبوا بنشيدهم وحماسهم!

عادت طلائع تلك الدفعات فاستقبلت استقبالا شعبيا ورسميا وكان في انتظارها على أرض الوطن أدباء وأعيان البلاد، وأنشد الشاعر الكبير أحمد غزاوي:

حي بالإعجاب أحفاد الصقور

واشد بالفخر وقل حان النشور

ثم كانت ولادة مدرسة تقنيات الطيران بالظهران عام 47م تنفيذا للاتفاق المبرم بين الملك المؤسس والولايات المتحدة الأمريكية لتأهيل الطلاب السعوديين لعلوم الطيران المختلفة. ولما كانت أسس هذه المدرسة أسسا عسكرية، فقد أشرف عليها مندوبون من القوات الجوية الأمريكية واكتسب الملتحقون بها التربية العسكرية التي تدخلت في مواعيد نومهم وتنظيف أماكنهم وتسوية أسرتهم، فزرعت فيهم الانضباط والصبر والتحلي بالمسؤولية في مرحلة مبكرة كان فيها التأهيل السلوكي قبل العملي.

وبعد أن كانت نواة تأسيس الخطوط السعودية اتفاقية محدودة بانتداب شركة TWA الأمريكية الطيار الأمريكي «جوزيف جراتس» ومساعد له وميكانيكي أمريكي، توسعت الاتفاقية لتشمل تطوير جميع المجالات الإدارية والفنية.

وهكذا تحول أبناء الوطن من على ظهور «الشقادف» (جمع شقدف وهو مركب أكبر من الهودج) إلى الطائرات الحديثة، وإنني لأزعم أن منهم من انتقل من الجمال إلى الطائرات مباشرة متجاوزا مرحلة السيارات والتي كانت وقتها حكرا على الميسورين!

ومع الوقت أثبت الطيار السعودي نفسه، وبدأت «سعودة» لا إرادية تحدث في صفوف الطيارين والمهندسين الجويين.

ثمة رواية شهيرة عن أن طيارا سعوديا قال لطيار أمريكي تواضعا «أنتم من صنعها» فإذا بالطيار الأمريكي يرد سريعا مجاملا: «صنعت لتطيروها».

وكما اختار الملوك السعوديون أحسن الطائرات، اختاروا أيضا أحسن الطيارين، باختيارهم ابن الوطن، فقد أوعز الملك فيصل وهو ولي للعهد في أواخر الخمسينات إلى القائمين على التدريب بضرورة وجود قادة طائرات سعوديين (أي ألا يقتصر تدريبهم على موقع مساعد الطائرة)، فكان أولهم الكابتن «نهار نصار» طيار الملوك كما لقب.

أجيال وراء أجيال، تحدوا الظروف وكبحوا جموح طائرات ليست من تقنية اليوم في شيء، عملوا بجد ورحلوا بصمت، نتذكر منهم الكابتن عبدالعزيز الصمعان، والكابتن عمر باريان، والكابتن بهاء الدين أسعد، والكابتن سعيد بخش، وبالطبع الكابتن أحمد مطر. وللكابتن عبدالله المقبل قصة غير معروفة كان أول من سن تلاوة دعاء السفر عام 81 بصوته في رحلة إلى مدينة «الوجه»، ثم تم تسجيله بصوت الإعلامي الكبير «محمد الصبيحي» وعمم على جميع طائرات الخطوط السعودية.

وعندما دقت طبول الحرب في الخليج عام 91 كان من الطبيعي أن يؤثر بعض الطيارين غير السعوديين السلامة ويعودوا إلى بلادهم بعدما ساهموا في نمو الكيان، وبقي أبناؤنا محلقين في سماء الوطن، الطائرة أجنبية والطيار سعودي.

وبعد عقود ثلاثة، هرعت إلى مكان ‏طائرة برتقالية كنت أشاهدها أمام توكيل الحسيني للسيارات، وقد كانت مصدر إلهام كبير، لعلي أتعرف على اسمها مما كتب عليها فوجدت أن الزمان قد عبث بما كتب وأبقى منه: «مطار جدة 1365- 1401». وعرفت أنها لم تكن الطائرة C-47 أو C 3 التي تحولت من طائرة للجيش الأمريكي إلى طائرة ملكية تليق وقتها بالملك الراحل، وكانت تحمل تسجيل HZAAX، ورمزت HZ إلى حجاز، وقد قيل: إن كل طيارة حجازية، وكل سفارة نجدية، وكل ملحقية عسكريه سعودية. ولتلتحق الطائرة لاحقا بأسطول الخطوط الجوية العربية السعودية.

وبعد سنوات عدة ‏من إحالتها إلى التقاعد، أعيد تأهيلها لتحلق مرة أخيرة في سماء المملكة بمناسبة «المئوية» وكأنها توشك أن تقول إن قصة الطيران بدأت بها ولم تنته.

وها أنا ذا إذ أقف فوق أكتاف الماضي لأشعر بفخر كبير بانتمائي إلى هذا الصرح الكبير وكلي ثقة في مستقبله.

نخلة كريمة ضربت جذورا قديمة في أرض طيبة، أما عن بعض سعفها الذي اصفر لونه، فلاتقلقوا.. إنها فقط تجدد أوراقها.