أحمد الهلالي

سيكولوجيا بعض النقاد!

السبت - 05 أغسطس 2017

Sat - 05 Aug 2017

يقول ليجان السكمري: في يوم أحمر من أيام قيظ مكة اللاهب، افترشت عمامتي لأغفو تحت شجرة (جميز) ضخمة، وحولي حجاج من العراق، أسترق السمع وهم يهمهمون عن شعر (المتنبي)، يؤولون أبياته، ويشنعون عليه سرقاته، فنشز بين الأصوات صوت جاف، يكاد يطقطق من قسوته، يقول «ما أراكم إلا كمن غمس يديه في العسل، وغسلهما بماء البصل، لم يسطع صفقها، ولا يحتمل فوه لعقها، أتمرقون من الوريف إلى الخريف؟ وتتفوهون بدعوى العميدي المفتراة، على قصر وثق المتنبي بناه؟».

فأجابه رجل هادئ الصوت «يا هذا! اشتد الحرور، وأبى يومنا المرور، فمالنا بحديث العلماء متكأ، ولا بأقوال الولاة نبأ، والشعر ديوان العرب، شمسه اليوم تسكن صدر أبي الطيب، فلا تثريب إن اختار المحبون المساس، تلذذا بذكر مالئ الدنيا وشاغل الناس».

فرد عليه الأول: لا أراكم من الحسدة، لكنكم تتبعون فرى العميدي وكمده، فهل تعلمون ما قاله العلماء عن بعض (النقدة)؟ فأجابوا: لا. قال: إنهم يصورون الناقد كالديك، لم يهبه الله قدرة الطيران، لكنه بحمل الأجنحة حيران، أخذ من الطائر الصورة، ولم يأخذ المقدرة.

وقديما قال شيخنا (المسفهل بن المرتاح) «الناقد مرتهن بين المنزلتين، فهو كالكاهن، لم يؤته الله النبوة، وشياطينه تصور منزلة الناس هوة، فاختار منزلة الخناس، ليأتيه أو يرهبه الناس، طباعه غريبة، ونفسه كئيبة، وهيئته مريبة، يتتبع عثرات المبدعين، ويذبذب أفكار التابعين، إذا اصطاد هتف ونادى، وإن خاب اختلق وتمادى،

حتى إذا شعر بانصراف الناس انبرى، وصنع زوبعة ليُرى، يشعر أنه بحجم الصُواب، ويطمح أن يكون أسد الغاب، فلا تصدقوا ما يفترون، ولا تثقوا بما يدعون، وكيف بالله عليكم سيكون الإنسان، حين يجافي طبعه الإحسان، فتراه لحبل الصلات قطوع، ولعثرات الناس تبوع، وللقول الناصح منوع، نصب نفسه حسيبا، وعلى أقوال الحالمين رقيبا، إن تحدث أدمى، وإن قال عمّى، يصدق فيه: من راقب الناس مات هما».

يقول ليجان، تململ النوم في عينيّ تململ الحافي في بطحاء قريش، فتمطيت وجلست، أراقب وأتسمع، فأبصرت شيخا أعفر كث اللحية، كأنك غمست فكيه في جفاء الحليب، يتحدث والناس يسمعون «بعض النفوس تسحق ضحى، كالحب بين فلقتي رحا، تشعر بالنقص عن مرتبة الشعراء، وتشعر بالعلو عن مرتبة النكراء، فتظل في السحق مائرة، وتنزف أحكاما جائرة، تطن طنين الذباب، وتخبو خبو السراب، وتطلب الشفع بالنفع، وتحسب أنها تحسن الصنع، فلا يجرمنكم ما يقترفون، وأحسنوا الحديث إليهم وأنتم عن موائدهم منصرفون».

يقول ليجان: فقمت من لحظتي، يباري وجهي لوافح السموم، وفي أعماقي لهيب مكتوم، حتى دخلت داري كالسارق، أبحث عن كتاب أسميته (حشو النمارق) كتبته في رمضان، وحين قرأته شعرت بالغثيان، فأنا حقا بين فلقتي رحا، أراني كالكاهن، ضعيف الحيلة واهن، فقد كتبت طلاسم العي، وأرهقت الشعر بالكي، فمزقت الكتاب وصيرته نسيا منسيا، وأقسمت ألا أنقد بعد اليوم إنسيا.

ahmad_helali@