مدن جريحة

الاحد - 02 يوليو 2017

Sun - 02 Jul 2017

قبل عام 2003، الذي شهد سقوط الدولة العراقية واحتلال بغداد، كان الإنسان العربي، ولأكثر من خمسين عاما، مهموما بأنباء العدوان والدمار الذي حل بالمدن العربية في فلسطين من حيفا ويافا ونابلس والخليل مرورا بالقدس والضفة الغربية حتى قطاع غزة. كما أن مأساة فلسطينيي الشتات خارج ديارهم وفي المخيمات ولعدة عقود كانت تشغل وجدان الإنسان العربي.



لقد أوغلت هزيمة الجيوش العربية في عامي 1948 و1967 في الجرح العربي، ونشأت أجيال ما بعد النكسة على هذا الإرث الثقيل، وباتت المدن الفلسطينية المنكوبة تشغل حيزا في أفئدتنا، ونكتشف مع كل عدوان إسرائيلي جديد أننا ولدنا أو عشنا فيها حتى تشكلت منها ذاكرتنا، وحين يصعب أو يتعذر علينا رسم ملامحها وتفاصيلها، فإن ما يصلنا من قصائد لمحمود درويش ولسميح القاسم، مع ما ننشده من أهازيج أبوعرب يجعل من تلك المدن الجريحة جزءا من ذاكرتنا، بل إنها تصبح أكثر من مجرد مكان.



وإذا كان العالم العربي قد سلم بعجزه لحسم المعركة العسكرية بعد سلسلة من الحروب امتدت لأعوام طويلة، فقد ظل ومنذ البداية عاجزا عن القيام بأي ردة فعل أمام الهجمات الغربية المتلاحقة لإظهار (التخلف العربي) في الإعلام الغربي، الذي رسم بدوره صورة قاتمة للإنسان العربي، فهو رجعي، غير منطقي، غير ديمقراطي، يتعاطف مع الإرهاب. ليس ثمة رؤية عربية واحدة عبر المؤسسات القومية العربية قادرة على مواجهة هذه الحرب والتي لم تكن بحاجة إلى الطائرات والصواريخ، بل كانت بحاجة إلى توظيف عقولنا وإمكاناتنا المادية والبشرية في خدمة قضايانا الإنسانية والتاريخية وإيصالها لشتى بقاع الأرض وبلغاتهم.



بات المواطن العربي الحالم بالتنمية ومحاربة الفقر والمرض والتخلف، يشعر بالمزيد من القلق حيال خسارته لمعارك متلاحقة حتى دون كسب شرف المحاولة، إلا أن شيئا ظل يبعث على الأمل والطمأنينة لدى الكثير وهو التوازن بين الخطاب العربي القومي والخطاب الديني، ورغم ما يعتريه من خلاف وصراع، إلا أن هذين الخطابين قد شكلا إلى حد كبير وجدان المواطن العربي وأثرا في تركيبته النفسية والعقلية.



بعد سقوط بغداد، ورغم الوعود الغربية بشرق أوسط جديد، تغير كل شيء، وتفجرت المنطقة، وكما يحدث في أزمنة التحولات الكبرى فإن المسلمات لا تقوى على الصمود، وفي منطقة جغرافية مشتعلة، تفشت ونمت النعرات الطائفية والأحقاد والثارات، تداعت المسلمات واحدة تلو الأخرى، انهارت مؤسسات عريقة وحكومات عتيدة بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، اختلط الحابل بالنابل، حل الدمار بالمزيد من المدن العربية شهدنا ذلك بأعيننا عبر وسائل الإعلام وفي بث مباشر، استمر العنف والفوضى، حل الدمار والانقسام في مجتمعاتنا العربية في الوقت الذي ظل العدو الأزلي يرقب المشهد من بعيد، اختفى الخطاب القومي العربي تماما عن المشهد، في الوقت الذي شهد الخطاب الديني انهيارا كاملا وارتباكا شديدا، عجز عن طمأنة الناس، وفشل رموزه في مواكبة الأحداث الجسام، مما ولد فراغا شغله دعاة التطرف والعنف والقتل والدمار وتم زرعه وتغذيته في قلب عالمنا العربي وأمام ناظرينا، كانت الأحداث مفجعة ومتسارعة وبدأت المدن العربية التاريخية تسقط تباعا ويقتل أهلها ويهجر من بقي على قيد الحياة، ويختار البعض منهم الهجرة نحو الغرب أو الموت في عرض البحر.



الآن، فإن العالم العربي والذي تخطى تعداد سكانه 350 مليونا يقطنون أكثر من 570 مدينة عربية، وإزاء ما يعتري مواطنيه من تشتت وضياع، ومن خيبة أمل وهو يرى المدن العربية يسكنها الدمار، ينتابه شعور بالقلق أكثر من أي وقت مضى، وهو بحاجة ماسة لذلك التوازن الذي فقده بين الخطابين الديني والقومي، وربما بحاجة أكثر هذه المرة لمفكري الأمة ومثقفيها، عليهم الخروج من عزلتهم، كي يساهموا مع غيرهم في صياغة خطاب عربي جديد يعيد الطمأنينة والثقة لأجيال من الشباب تتطلع للتنمية والبناء لمجتمعاتها التي ظلت متماسكة، ولتبقى قادرة على مساعدة أقرانهم الشباب في الوطن العربي لطرد الغزاة، والتسامح مع أبناء جلدتهم والشروع في إعادة إعمار مدننا العربية الجريحة.



@temyatt