طيري.. يا طيّارة!

الخميس - 22 يونيو 2017

Thu - 22 Jun 2017

لم يبق في ذاكرته من عهد الطفولة الكثير، ذلك لأنَّه لم يعشه في أغلب أيامه كما كان ينبغي من مرحٍ وإن لم يخل من براءة. كانت الجديَّة تسيطر على الأجواء داخل البيت، وتقف حاجزاً أمام الخروج منه إلا في مناسبات استثنائيَّة لعل أهمها كان الخروج إلى منزل خاله المطلِّ على وادي العقيق، حيث كانت قيود الصَّرامة أقلّ بكثير. وكانت مساحات الحريَّة بامتداد تلك «البلاد» بخضرتها وبئرها وجدرانها التي تعلق التاريخ متشبِّثاً بما حمَلته من عبقٍ مبارك.

كان هناك مجال أحياناً لصناعة الطائرات الورقيَّة التي لم ينجح في معظمها بشكلٍ تبقى فيه الطائرات طويلاً في الفضاء، وحين نجح مرَّة وسعِد بتلك الطائرة انقطع الخيط ولم تعد الطائرة.. ولم يعد إلى مثل تلك الطائرات.

أما أجمل مفاجآت الطفولة فكانت ما يأتي بها إخوته الكبار من خارج المدينة أو من خارج المملكة من هدايا ذات نوعيَّةٍ أسبق عصريَّة إلى ما في الأسواق المحليَّة. وكانت أكبر المفاجآت حين صحا يوماً ليجد أن أحد إخوته الأكبر سنَّاً وقدراً قد أحضر له من الرياض «درَّاجة» أنيقة لم يكن لدى أبناء الحارة مثلها. إلا أنَّ تلك الفرحة لم تكتمل، لأنَّ طلبه الخروج بالدَّراجة إلى خارج الدار لم يلق ما كان يرجو رغم معرفته بأنَّه لن يكون. وهكذا فلم يكن من مجال إلا «الدوران» بالدرَّاجة في حدود «الحوش» الصغير الملحق بدارهم.

ذات يومٍ لا ينساه، كان برفقة أخيه الأكبر في شارع العينيَّة، وتمنَّى أن يحصل على نسخة من مجلة «سوبرمان» من مكتبة «ضياء»، إلاَّ أن ذلك لم يكن يتَّفق مع مثاليَّات الثقافة التي نشأ وإخوته عليها. وحين انتقلت عيناه من التأمُّل في أغلفة المجلات، لمح ألعاباً كثيرةً جديدة خارج أحد المحلات، وقد تم نثرها خارج المحل لجذب المشترين المتزايدين على مشارف العيد. وشدَّ انتباهه طائرة ذات ألوان وإضاءات.. يفتح بابها وينزل من تحته سلَّم، ويبدو خلف الباب مجسَّم لمضيفة أنيقة. تسلَّل بهدوء إلى البائع وسأله عن قيمتها، ولم يُلقِ البائع إليه بالاً، إذ لم ير فيه ما ينبئ عن نيَّةٍ جادَّةٍ في الشِّراء، وهو ما تأكَّد حين تنبَّه إليه أخوه، وأخذ بيده عائدين إلى الدَّار.

ألقى العيد ببهجته على وجه المدينة وأهلها. أما هو فكان العيد بالنسبة إليه الفرصة التي يجمع من خلالها المبلغ الذي ظنَّ أنه قيمة تلك الطائرة. وجمع من العيديَّات القرش فوق القرش، وتنازل عن مشاركة أقرانه أيَّ إغراءات لشراء حلوى أو التسلُّل إلى المراجيح المنصوبة في الساحة الترابية أمام الدَّار، أو في التجمُّع الأكبر لها في المناخة. وظلّ يتحمّل مرور أيام العيد بمللٍ في انتظار عودة الأحياء إلى الأسواق ليشتري الطائرة التي كادت أن تصبح حلمه الوحيد.

وفي اليوم الرابع للعيد أطلق ساقيه مسرعاً، بعد جولة استئذانٍ مضنية. تفاجأ أن محلّ الألعاب مقفلٌ، وأسقط في يده.. إلا أنَّه استرجع سروره حين أدرك أنَّه وصل قبل انتهاء صلاة العصر. وحين بدأ البائع في كشف الستار عن بضاعته كانت دقات قلبه موازية لأنغام الطائرة المنتظرة. لم يجدها فيما حدَّق فيه من ألعاب، وحين سأل البائع أخبره بلهجة جافَّة أنه لم يبق منها ولا واحدة. ظلَّ في مكانه مطرقاً، ويبدو أن انكساره ذلك آلم البائع الذي وعده بكميَّةٍ سيجيء بها من جدَّة قريباً!

لا يذكر عدد المرات التي عاد فيها إلى البائع، ورجع دون الطائرة. وجاءت الدراسة، ومرَّت الأياَّم والأيَّام، وانتقل من الطفولة إلى الصبا إلى الكهولة. ورزقه الله بأبناء وبنات ابتاعوا أنواعاً من الطائرات لم يكن في نظره أيَّ منها كتلك التي لم ينسها أبداً. وركب هو إلى أنحاء العالم أنواعاً من الطائرات وعلى مختلف الدرجات ورأى صنوفاً من المضيفات، وأيضاً لم يُطفئ ذلك ما التصق بذاكرته من طيوف.

في العام الماضي خرج من المسجد النبوي ليلة ختم القرآن الكريم في رمضان، ومرَّ بجوار البقيع ليلقي السَّلام على من سبق من أحبَّة. كانت بشائر العيد قد بدأت في الهطول، ورغم ضجيج المنادين كلٌّ على بضاعته، سبق إلى أذنه إلحاحٌ متكرِّرٌ بدا أنَّه لطفلٍ مزعج، وحين التفت، كان كذلك. وبتوازي الخطوات عرف القصَّة، وأن ذلك الأسمر الصغير الذي ألقى الزمان به وبأبيه إلى قارعة الحرمان يئنُّ راجياً أن يشتري له أبوه طائرة رآها عند بائعٍ خلفنا. وتداعت الذكريات.. الطائرة، رمضان، العيد والمضيفة. والتفتَ إلى الأب الذي جمع اعتداده ليومئ أنها لا تستحق فيما قالت عيناه غير ذلك. فجأة أصبح هناك مجال لحديث عن العيد، وبركة زمان.. كلُّ ذلك والخطوات تتراجع حتى وقفت على بائع الطائرات. «يا شيخ فرِّح الولد.. الدُّنيا عيد».. استجاب الابن ببسمةٍ على وجهه تعادل كل لحظات الانتظار. وأصرَّ الأب بلاءات، ثم تراجع حين أخبره أن سيشتري اثنين لولده ولذلك الملحاح. وقبل الأب على مضض مخفياً بريقاً لمَع في عينيه من فرحٍ ودموع.

افترقوا.. ولا يعرف أين ترك الطائرة الثانية. كلُّ الذي يدريه أنَّه لن يموت وفي نفسه حسرة على تلك الطائرة.. والمضيفة!