نساء لا يتكررن

الاحد - 18 يونيو 2017

Sun - 18 Jun 2017

سأكتب عن الجنوب بقلم القريب الذي أعرف هم النساء فيه كما أعرف هم الرجال، سأكتب، ولكن ليس بقلم المتعالي بل بقلم الفخور الذي عرف بأن المرأة في الجنوب ليست ككل النساء. فهي طفلة ورجل في وقت واحد، وهي الكادحة، الصابرة، والمربية للأبناء، والحنونة والوفية لزوجها.

أذكر أن والدي قال لي مرة: بأن جدي كلما خرج لمعركة، كانت أمه تخرج وتقول له: يا أحمد انظر إلي.. والله إن مت وقتلت من الخلف لأقطع ثديي اللذين أرضعتك منهما وأرميهما للكلاب.

الجنوبيات إما أن يحثثن أبناءهن على حمل البندقية للدفاع عن الوطن في جبهات القتال، أو يرفعن من شأن أقلامهن وتعليمهن ليكتبن للوطن ويدافعن عنه في الصحف والمنابر، ولأنهن يدركن بأن حب الوطن لا يعلم، بل يرضع مع الحليب منذ الصغر، وأن الأمهات هن النواة، والبذرة الأولى لاخضرار هذا الوطن.

هناك تجد الأم في كل مجلس تفتخر أمام من تعرف ومن لا تعرف بأن ابنها أدخل للتو في الدورة العسكرية ليضحى مقاتلا ومدافعا لدينه وأصالته ووطنه؛ فهم أكثرهم تضحية ومحبة وتعبيرا لدور الأمهات في تأسيس لبنات هذا الوطن الغالي، ولأن الجنوب مجتمع زراعي بامتياز عرفوا أهمية الأرض والتضحية لأجلها.

سلام الله عليهن، المطليات كفوفهن بالحناء، واللاتي ترشح أجسادهن برائحة الشيح والبعيثران، وتفوح ثيابهن بالذرة، سلام الله عليهن اللواتي يستنشقن رائحة الطين وينثرن القمح للطيور أمام بيوتهن كل صباح، وكأنما محمود درويش كان ينظر لإحداهن حينما قال:

وقبل أن تعد فطورك.. فكر بغيرك لا تنسى قوت الحمام.

طالما شاهدنا الأم التي تلبس طفلها لباس الجنود والضباط، وهو لم يتجاوز السادسة بعد أو السابعة من عمره، كل ذلك لتغرس داخله غراس التضحية، وأولوية الوطن قبل كل الأولويات. وما إن يكبر قليلا حتى تحثه على الالتحاق بالسلك العسكري، ليكون في الصفوف الأمامية من الجبهات. وهكذا فهن يفرحن ويبكين مرتين في حياتهن، حينما يربين أبناءهن ويقدمنهم كأغلى ما يملكن دفاعا عن الوطن، وعندما يموتون شهداء في المعارك.

وحتى عندما يستشهدون فهن لا يبكين بل يزغردن كما لو أنها ليلة الزفاف. ويتكرر هذا المشهد مع كل فلذات أكبادهن وهن يحنن، ويشتقن، ويضحين بهم وهن في أوج حبهن لهم؛ ولكنهن حينما يبكين يتفجرن كما الينابيع والبراكين وتدمع كل مسامات جلودهن.

جازان مصنع الجنود، والأم التي تلد تهدي الوطن أبناءها دروعا، والأمهات لا يعترفن بأي أم تستيقظ بعد السادسة صباحا، وكلما كبرن عاما أخذ لون الأرض الحنطي مساحة أكبر في وجوههن التي تشع نورا.