ليس كمثله شهر

الاثنين - 05 يونيو 2017

Mon - 05 Jun 2017

من العجيب أن رمضان شهر حر وصوم وعطش وتحمل وتعبد، ثم تقبل عليه النفس بنهم المشوق. لا يرتقب هلال سوى هلاله، ولا يستعذب ظمأ سوى في هجيره، ولا يحلو سهر كما سهر لياليه، ولا تحسب أيام شهر حتى انتهائه سوى أيام رمضان.

يأتينا رمضان في كل عام ضيفا جديدا ويهدينا حين يغادرنا عيدا، فهل كمثله شهر! تحشد له المشاعر والماديات كأعز ضيف منتظر، ففي إطلالته بشرى، وفي أوله رحمة، وفي توسطه مغفرة، وفي اختتامه عتق من النار.

شهر له عبق وله صوت وله وجوه وله فضاء مزدحم بالذكريات. في رمضان نستحضر وجوه أطفال كبروا، وأحبة رحلوا، ومعشرا تفرقوا، وتفاصيل تأتي فقط مع رمضان وتغادر مع رمضان.

لمساجده رائحة، ولشوارعه رائحة، ولأطعمته ومشروباته مذاق متفرد ورائحة أيضا.

ولكل ساعة من ساعاته إحساس وذاكرة، فساعة السحر فيه حياة، وساعة المغرب منه نشور، أما ليله فحكاية قدسية، تراتيل من كل مئذنة، وأضواء، وتزاور، وتسامح وتواصل، هو باختصار: حياة.وفي رمضان تتكشف المعاني الحقيقية لعمارة المساجد، فليس إلا في رمضان تنشط المساجد بالمصلين، والتالين للقرآن، والذاكرين لله، والقائمين على تفطير الصائمين وغير ذلك. وهذا تصديق قوله تعالى (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله). إنه شهر تحتاجه نفوسنا لينقيها، وسلوكياتنا ليوجهها، وأجسادنا ليريحها، وأموالنا ليزكيها.

فما أحلمه وهو يأخذ بقياد النفوس الضالة إلى جادة الله! وما أكرمه حين يفيض على الأرواح المتعبة نسمات تراويحه! وما أرأفه وهو يعيد هاجر القرآن إلى رحائبه وظلاله!

جملة من بشريات السعادة الروحية والحسية يفيضها هذا الشهر الكريم على الناس في كل مكان. فلا عجب أن ترى الناس لمقدمه من المرتقبين، ولأيامه من العادين، وعلى فراقه من المتوجدين. إن في رمضان سرا لا يتنبه له الكثيرون، سره في ذلك الشعور الكامن الذي يتفجر في آخر ساعاته، حين تتكثف في الروح غصة موجعة لوداعة وفرحة غامرة لاستقبال عيده! كيف لشهر أن يفعل كل هذا!

رمضان حياة وليس ظرف زمان! ومهما قالوا تغير رمضان.. وأين رمضان زمان! يظل رمضان شهرا منتظرا ، ليس كمثله شهر. فالقبول القبول يا رب لمن صام شهرك العظيم وقامه.