الأسرار التجارية وأثر التحكيم

الاحد - 04 يونيو 2017

Sun - 04 Jun 2017

التجارة لها أسرار ودهاليز وممرات مكشوفة وسرية. وهذه السرية، بكل درجاتها، قد تكون ضرورية لإتمام الصفقة أو إلغائها أو تعديلها، وعدم الحفاظ على السرية ربما يهدد كل العملية ويقود إلى نهاية غير مرغوب فيها وإلى الخسران المبين. وفي حالات عديدة أيضا فإن استمرار التعامل التجاري بين المتعاملين وأطراف العملية، قد يتطلب السرية التامة وكتمان التفاصيل من الآخرين. والكتمان واجب، عن أعينهم وعن مسامعهم أو أحاسيسهم وحواسهم الخامسة وحتى السادسة.

وطبعا لكل مهنة أسرار وتفاصيل خاصة بها وعلى ممتهني المهنة بذل الجهد الذكي والبراعة البارعة للحفاظ على هذه الأسرار والتعامل معها بكل مهنية وحرفية تامة. وعلى رأس هذه المهن والمعاملات تأتي التجارة في المقدمة. وهذا يعود لانتشار التجارة لأهميتها للجميع، ولأن الكثير يمتهنها انطلاقا من القول المأثور «تسعة أعشار الرزق في التجارة».

وفي خضم التعامل التجاري، فيما بين التجار وغيرهم، قد تظهر الخلافات. وبعض هذه الخلافات قد يتحول إلى خصومة وتنافر وتباغض وعداوة بين أصدقاء الأمس، ومثل هذا الوضع المتأزم قد يقلب الأوضاع رأسا على عقب،. ولذا يلجأ الأطراف لاستخدام كل الأسلحة في مواجهة الصديق الخصم. وقد تصل الخلافات بين الأطراف لردهات المحاكم، وهناك الرابح وأيضا هناك الخاسر بعد صدور قرارات المحاكم، وكل هذا قد يقود للشحناء والبغضاء، وفي مثل هذا الوضع يتم انتهاك الأسرار السرية وفض بكارة الخصوصية، ويتم رفع غطاء الأسرار التجارية وتنتهك حرمتها، ويتم كل هذا لأن الإجراءات أمام المحاكم علنية وشفافة ويحضرها الداني والقاصي، وعلي مرأى منهم وعلى سماع آذانهم يتم النقاش والاستجوابات وإعادة الاستجوابات، وفي هذه اللحظات لن يبقي هناك أي سر، سواء كان من الأسرار التجارية أو الشخصية أو غيرها، وكل هذا يضر كثيرا بالتجارة وبالعلاقات التجارية بين المتاجرين والمتعاملين.

أمام المحاكم القضائية، يتم مناداة الأطراف وبصوت عال يسمعه الجميع، فلان ضد فلان، وفلانة ضد علانة، ومن هنا يبدأ إزاحة الستار عن السرية التجارية.

ثم تمتلئ قاعات المحاكم ويبدأ سماع ما يقوله الأطراف المتخاصمون، والشاطر يقول كل ما عنده وحتى الأسرار السرية للتجارة. ومن هذا يتضرر الأطراف وقبلهم العمل التجاري وأسراره التي أصبحت مبتذلة مكشوفة أمام الجميع. وهذا يجعل اللجوء للمحاكم للفصل في المنازعات، فيه خطر كبير على الأسرار التجارية لأنها تصبح غير سرية أمام المحاكم حيث لا يوجد سر، إلا في حدود ضيقة جدا، وللبيوت والتجارة أسرار.

من هذا الواقع الذي يسنده القانون والإجراءات العلنية أمام المحاكم العدلية، وكرد فعل طبيعي لهذا الوضع، بدأ التجار والأطراف المتنازعون يبحثون عن بدائل أخرى مناسبة للذهاب إليها لفصل المنازعات التي تطرأ بين الأطراف لأي سبب. وكان الخيار الأفضل، هو اللجوء للتحكيم والابتعاد من المحاكم التي تسير على هدي العلنية كقاعدة عامة عند نظر المنازعات، كل أنواع المنازعات التجارية، ومن مميزات التحكيم الهامة جدا، أن إجراءاته تتم في سرية تامة وبعيدا عن الأعين والآذان و»كشف الحال»، وليس هناك أي طرف ثالث يسمح له بمتابعة إجراءات التحكيم، كما لا يجوز لأطراف التحكيم وجميع هيئاته الإفصاح عن التحكيم وما تم فيه من مداولات، ومن هذا يمكن القول بأن ما يتم داخل ردهات التحكيم يظل «مقبورا» داخل هذه الردهات ولا يجوز أن يعلمه أي طرف ثالث، وهذا يجعل التحكيم سريا ويحافظ على الأسرار التجارية التي لا تنكشف لأي أحد، وهذا فيه مصلحة للعمل التجاري وللتجار ولكل أسرارهم التجارية، وليس كل ما يعرف يقال.

إن الرغبة في الحفاظ على الأسرار التجارية تجعل الكثيرين يبتعدون بعيدا، وعن قصد، عن اللجوء للمحاكم وطرقها وإجراءاتها لفض المنازعات التجارية. ومن الواقع المعاش والإحصائيات والبحوث، تبين أن اللجوء للتحكيم يعتبر من أفضل البدائل المتوفرة لحسم المنازعات التجارية خاصة عند الرغبة في عدم كشف الأسرار التجارية والحفاظ عليها لأنها ذات خصوصية خاصة لا يتم التفريط فيها.

ومن هذا الواقع، فإن اللجوء للتحكيم يمثل مخرجا قانونيا حضاريا يعيد الحقوق لأهلها في عدالة ناجزة تامة، وفي نفس الوقت تظل الأسرار التجارية بعيدة عن الآخرين وغيرهم من المتطفلين، وفي مقام الحفظ والصون حتي آخر رمق.. وهذا من فوائد ومميزات وخصوصيات التحكيم التجاري.. حيث العدالة ناجزة ومصانة، والتحكيم كبديل لحسم المنازعات متوفر للجميع، في سرية تامة، وفق الضوابط القانونية المتبعة.