حسين بافقيه

الأندية الأدبيَّة.. مولد المؤسَّسة الثَّقافيَّة

الاحد - 28 مايو 2017

Sun - 28 May 2017



ظَلَّتِ الأندية الأدبيَّة حُلُمًا يعتاد المثقَّفين، حينًا بعد حين، ولن يعيينا البحث ولا التَّفتيش إنْ أردْنا على ذلك الشَّاهد والمَثَل. صحيح أنَّهم عرفوا غير صورة مِنْ صور المنتديات الأدبيَّة في «القهوة»، و»المركاز»، و»المَقْعد»، ثُمَّ «الصَّالون الأدبيّ»، لكنَّهم أدركوا أنَّ كلّ هذه الصُّوَر والأشكال، مهما تباينتْ وتنوعَّتْ، لا تغني عن «المؤسَّسة الثَّقافيَّة» الحديثة، تلك المؤسَّسة الَّتي هي صورةٌ للمجتمع الحديث الَّذي ينتمون إليه، أمَّا الأشكال الأخرى، فمهما تكنْ ناجعةً، ومهما تكنْ مفيدةً، فإنَّها لا تَعْدُو محيط الأصدقاء والإخوان، ولا ترْقَى بالأدب خارج حدوده المرسومة، سلفًا، في ألوان المسامرات وما تنتجه مِنْ أدبٍ، هو أدنَى صلةً بعصر مضى وزمان سلف.



ويظهر لي أنَّ ما كان يحكّ في صدور الأدباء والمثقَّفين، فقرأنا طَرَفًا مِنْه في الصُّحُف والمجلَّات، كان قدْ ألقى بأثره على القائمين على أمر الثَّقافة، فكان الأمير فيصل بن فهد بن عبدالعزيز، الرَّئيس العامّ لرعاية الشَّباب، قدْ جعل يفكِّر، عام 1395هـ=1975م في دفْع الثَّقافة في البلاد خطوةً، فسعى إلى جمهرة واسعة مِنَ الأدباء، وفيهم أدباء الرَّعيل الأوَّل، يسألهم الرَّأي في إحياء «سوق عكاظ» التَّاريخيَّة، ولمَّا أدرك الجميع أنَّ إحياء السُّوق في تلك المُدَّة تَحُوطه صعاب، اختاروا الأمر السَّهل اليسير، فزيَّن الأديب النَّاقد عزيز ضياء للأمير الشَّابّ إنشاء «أندية أدبيَّة» في غير مدينة مِنْ مُدُن المملكة، فعسى أنْ تنهض هذه الأندية بواجب الأدب والثَّقافة، وطاب الرَّأْي في عين الأمير، فصدرتِ الموافقة بإنشاء سبعة أندية أدبيَّة، في جدَّة، ومكَّة المكرَّمة، والمدينة المنوَّرة، وجازان، والطَّائف، وأبها، والرِّياض، ثُمَّ أُنْشئَ نادي القصيم الأدبيّ عام 1400هـ، فنادي المنطقة الشَّرقية عام 1410هـ، وفي عام 1415هـ أُنْشِئَتْ ثلاثة أندية في الباحة وتبوك وحائل، وفي عام 1422هـ أُنْشِئَ نادي الجوف، ولَمَّا أُنْشِئَتْ وزارة الثَّقافة والإعلام عام 1424هـ، وصار إليها الإشراف على أمر الأندية الأدبيَّة أُنْشِئَ في نجران والأحساء والحدود الشَّماليَّة ثلاثة أندية أدبيَّة، عام 1428هـ، ليصبح مجموع الأندية الأدبيَّة في البلاد ستَّة عشر ناديًا أدبيًّا.



ويستجلب النَّظر أنَّ الأندية الأدبيَّة، رامتْ، منذ إنشائها عام 1395هـ=1975م، أنْ تكون مؤسَّسةً مِنْ مؤسَّسات المجتمع المدنيّ، وأنَّ صلة النَّادي بالمؤسَّسة الحكوميَّة أنَّ هذه الأخيرة تمنحه إذن الإنشاء، وأنَّ على أعضاء مجالس إدارات تلك الأندية المنتخَبين النُّهُوض بالأدب وترقيته، ونشْر الوعي بين الجماهير، بالمحاضرة، والنَّدوة، يُدْعَى إليهما مشاهير الكتَّاب والشُّعراء والأدباء والقصَّاصين، وعقْد حلقات للبحث والمناقشة في هذه المجالات، وتنظيم المناظرات، ودراسة الكتب الأدبيَّة والثَّقافيَّة، وإصدار نشرة دوريَّة، أوْ مجلَّة تحوي روائع الأدب والثَّقافة النَّوعيَّة، وإنشاء مكتبة، وتزويدها بالكتب المنوَّعة الدِّينيَّة والأدبيَّة والثَّقافيَّة، وإجراء البحوث والتَّأليف في الأدب والثَّقافة، واستخدام السِّينما وسيلةً تثقيفيَّةً، واستخدام الإذاعة في عقد دورات وحلقات المناقشات، وتسجيل برامج من إنتاج الأعضاء وإذاعتها، وعمل برامج تمثيليَّة تربويَّة أخلاقيَّة، أوْ تاريخيَّة، أو اجتماعيَّة، أوْ إنسانيَّة، أوْ غيرها، لها صلة بهذه البرامج، والانضمام إلى الرَّوابط والجمعيَّات الأدبيَّة في البلاد العربيَّة، وتبادل المعلومات والبحوث والكتب في هذه المجالات، وطبع ونشْر ما يستجيده النَّادي مِنْ إنتاج وتوزيعه ممَّا يساعد على دفْع عجلة الثَّقافة في بلادنا، وممَّا يشجِّع الأدباء النَّاشئين على مواصلة إنتاجهم وإجادته.



كان إنشاء الأندية الأدبيَّة فصلًا جديدًا في تاريخ الأدب والثَّقافة في المملكة، أَحَسَّ وقعه وقيمته القائمون على الأمر، والأدباء، والمثقَّفون، ويذكر لنا التَّاريخ أنَّه لمَّا أُعْلِنَ عنْ موعد أوَّل محاضرة منبريَّة لنادي جدَّة الأدبيّ، لوزير المعارف، آنئذٍ، حسن بن عبدالله آل الشَّيخ، وتَسَامَعَ بها النّاس، ما لبثوا أن خفُّوا إلى مقرّ النَّادي، وفيهم المسؤول الحكوميّ، والأديب، والمثقَّف. واستجلب النَّظر، في تلك المحاضرة، اختلاف المرأة المثقَّفة إلى النَّادي الأدبيّ، للاستماع والتَّحاور والاختلاف.



خَطَتِ الأندية الأدبيَّة السِّتَّة الأولى خطواتها في الثَّقافة برزانة واتِّئاد، وعَنَتْ لسطوة جمهرة مِنْ شيوخ الأدب والثَّقافة، مِمَّنْ كان لهم السَّبْق في ارتياد الأدب الحديث والثَّقافة الحديثة في البلاد، وبالأخصّ محمَّد حسن عوَّاد وعزيز ضياء، وحين اخترم الموت الأوَّلَ منهما عام 1400هـ=1980م، عند تمام القرن الرَّابع عشر الهجريّ، كأنَّما كانتْ وفاته، وهو الأديب المجدِّد، إيذانًا بحقبة جديدة في الأدب والثَّقافة في البلاد، هي تلك الَّتي نَعْرفها باسم «مرحلة الثَّمانينيَّات الميلاديَّة»، وليس من المغالاة في شيء أنْ نعتدَّها «العصر الذَّهبيّ» للأندية الأدبيَّة في المملكة.



ونستطيع القول: إنَّ السَّنوات العشر الأولى مِنَ القرن الخامس عشر الهجريّ (1401-1410هـ) – عشر الثَّمانين مِنَ القرن الميلاديّ العشرين – هي أشْبه بالفصل الجديد في كل شيء. كانتْ فصلًا جديدًا حين آبَ جمهرة واسعة مِنْ شبَّان البلاد مِنْ بُعُوثهم العلميَّة، وحين اتَّصل لفيف مِنَ الأدباء بالحركات والتَّيَّارات الأدبيَّة الجديدة في الأدب العربيّ الحديث، وكانتْ فصلًا جديدًا حين رأى بعض أساتذة الأدب العربيّ والآداب الأجنبيَّة في الجامعات السُّعُوديَّة، في المناهج الحداثيَّة وما بعد الحداثيَّة - منتهَى ما يرجونه في معالجة الآثار الأدبيَّة، وكان هؤلاء وأولئك قدْ وجدوا في الصِّحافة الأدبيَّة النَّشِطة، وفي الأندية الأدبيَّة، حِضْنًا لما يرجونه في الأدب والنَّقد والثَّقافة، وحمل نادي جدَّة الأدبيّ تَبِعَة النُّهُوض بالأدب الجديد والثَّقافة الجديدة، ورأيناه يفسح لشعراء الحداثة ونقَّادها المنبر، والكتاب، فالمجلَّة، مِنْ بَعْدُ، ويخوض حربًا ضروسًا، كابد فيها المشاقّ، حتَّى يصل إلى غايته الَّتي يرجوها، وليس له مِنْ غاية، آنذاك، إلَّا الاتِّصال بأدب الحداثة، في الشِّعْر والقصَّة والنَّقد الأدبيّ. ورأيناه، دون غيره مِنَ الأندية الأدبيَّة، يسعى إلى أعلامٍ في الفكر والأدب والنَّقد، مِنَ المثقَّفين العرب، في المحاضرة المنبريَّة، والنَّدوة النَّقديَّة، وكان مِنْ أظهر ما آزر به هذا النَّادي حركة الحداثة في المملكة، أنْ نشر جمهرة مِنَ الكتب الَّتي يعتدُّها مؤرِّخو الأدب والثَّقافة علامة حقبة جديدة في أدب البلاد وثقافتها، وأهمُّها كتاب الخطيئة والتَّكفير، للدَّكتور عبدالله الغذَّاميّ (1405هـ=1985م)، وديوان التَّضاريس، للشَّاعر محمَّد الثُّبيتيّ (1407هـ=1987م)، وقراءة جديدة لتراثنا النَّقديّ، (1409هـ=1988م)، وفي المجلَّدين اللَّذين انطوى عليهما هذا الكتاب، نقرأ تلك الفصول الَّتي أنشأها نفر مِنَ النُّقَّاد العرب، معظمهم مِنْ أصحاب المناهج الحداثيَّة، حين اجتمعوا في مدينة جدَّة، وأداروا الرَّأي في تراثنا على وفق ما تهديهم إليه المناهج النَّقديَّة الحديثة، وبين هذه وتلك، نقرأ ألوانًا مِنَ الكتب في «الأسلوبيَّة»، و»البنيويَّة»، و»التَّفكيكيَّة»، و»نظريَّة التَّلقِّي»، و»التَّأويل»، وسار غير نادٍ أدبيّ في النَّهج نفسه، فقرأنا مجاميع في الشِّعْر الحديث والقصَّة الحديثة والنَّقد في أندية أدبيَّة أخرى، منها نادي أبها، ونادي الرِّياض، ونادي الطَّائف، ونادي جازان، ولمْ تسلمِ الأندية الأخرى مِنْ غبار معركة الحداثة، فكانتِ الأندية الأدبيَّة، بعد عشر سنوات مِنْ إنشائها (1395-1405هـ=1975-1985م)، فصلًا جديدًا في الأدب والثَّقافة في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، مهما كان ذلك الفصل قاسيًا وأليمًا في بعض صفحاته.





hussain_bafagih@