حسين بافقيه

الحبيب اللَّمسيّ

السبت - 20 مايو 2017

Sat - 20 May 2017

يغلب على الظَّنّ أنَّ كتاب «تاريخ الأدب الجغرافيّ العربيّ» للمستشرق الرُّوسيّ العلَّامة كراتشكوفسكي، كان أوَّل ما اقتنيتُه مِنْ منشورات دار الغرب الإسلاميّ، ولا زلتُ أذكر، حتَّى اليوم، أنَّه استجلب نظري في هذا الكتاب أمران؛ طرافة الموضوع وسعته، وقُدْرة المترجم العلَّامة السُّودانيّ صلاح الدِّين هاشم على نقل مقاصد الكتاب بلسان عربيٍّ مبين، مهما تشعَّبَ الموضوع الَّذي تصدَّى له المؤلِّف.



غير أنَّ أمرًا آخر استجلب نظري، لا صلة له بالمؤلِّف ولا المترجم، وهو أنَّ الكتاب جاء على نَحْوٍ مِنَ التَّنضيد والتَّجليد متينٍ وبديعٍ، فأنتَ تَظفر، حين تقرأ هذا الكتاب، بما يمتع العين، وتدرك أنَّك إزاء دار نشر وراءها عقلٌ يدير أمورها، على غير ما عَهِدْتَه في دُور نشر أُخَر، فاستقرَّ في ذاكرتي اسْم دار الغرب الإسلاميّ وصاحبها مثالًا للتَّجويد والإتقان، منذ أَلِفَتْ عيني أنْ تقرأ عبارة «دار الغرب الإسلاميّ لصاحبها الحبيب اللَّمسيّ»، في الصَّفحة الأخيرة مِنَ الكتاب.



لمْ تَعْتَنِ دار الغرب الإسلاميّ بقضايا النَّقد الأدبيّ الحديث حتَّى أَميل إليها، فأسلوبها في النَّشْر مبايِنٌ لاهتمام المشتغلين بالأدب والنَّقد وقضاياهما، وغاية ما تَسْعَى إليه الدَّار هو نشر تراث الغرب الإسلاميّ (الأندلس، وصقلِّية، وأقطار المغرب العربيّ)، حتَّى إذا استوفتْ ذلك، تراها تُعْنَى بالتُّراث العربيّ الإسلاميّ في غير ناحية مِنْ نواحيه الواسعة. فإذا أراد قارئٌ معرفةً واسعةً بتاريخ الغرب الإسلاميّ، وإذا أراد أن يتَّصل اتِّصالًا قويًّا بتراث الإسلام في الفقه، والتَّفسير، والحديث، والعقائد، والأدب، واللُّغة، والفلسفة، والبلدانيَّات، والتَّراجم والسِّيَر = فحَسْبُه أن يقصد دار الغرب الإسلاميّ، فتراث تلك النَّاحية مِنْ عالَم الإسلام، وهو عزيز نادر، كأنَّما ادَّخره الله – تبارك وتعالَى – للعلَّامة الحبيب اللَّمسيّ، إذْ سَعَى إلى الجِلَّة مِنَ العلماء والأدباء وشيوخ التَّحقيق، فأخرجوا مخبَّآت تراثنا، ولَمَّا أتاحتْها هذه الدَّار قرأها النَّاس في خير تحقيق، وأحسن صورة، وأجلى عبارة.



وأذكر، حِين قرأتُ «فهرس ابن خير الإشبيليّ»، بعناية الشَّيخ فرنسشكه قداره زيدين وتلميذه خليان رباره طرغوه! استهواني هذا الضَّرْب الغريب مِنَ المعرفة الإسلاميَّة، وجعلْتُ أبحث عنْ كُتُب أخرى في هذا الفنّ الطَّريف، الَّذي عليه مدار العلوم الإسلاميَّة والعربيَّة، فهداني البحث إلى كتاب «فهرس الفهارس والأشياخ» للعلَّامة عبد الحيّ الكتَّانيّ، وكانتْ دار الغرب الإسلاميّ قدْ أعادتْ نشره، بعناية العلَّامة إحسان عبَّاس، وجاءتْ مجلَّداته الثَّلاثة آيةً في الإمتاع، وكأنَّما أظهرني ذلك الكتاب البديع على «الحبل السُّرِّيّ» للعلوم الإسلاميَّة، وأخذ بيدي، شيئًا فشيئًا للوقوف على سِرٍّ مِنْ أسرار الثَّقافة الإسلاميَّة، مهما اختلفتِ الأزمنة وتباينتِ الأمكنة، وهداني هذا الضَّرْب مِنَ الكُتُب إلى أنَّ عالَمَ الإسلام، مهما اتَّسَعَ، فحَتْمٌ عليه أن يجتمع في تلك الكُتُب العجيبة الَّتي يدعوها أهلوها بكتب «الفهارس والأثبات والبرامج والمَشْيَخات». وفي هذه الكُتُب، وهي مِمَّا لا يستهوي الأدباء والمثقَّفين، تستبين لنا طبيعة الحياة العلميَّة والثَّقافيَّة في كلّ عصور الإسلام، وفي كلّ نواحيه.



ولَمَّا استبان لي شيءٌ مِنْ تلك «الخريطة الخَفِيَّة» للعِلْم الإسلاميّ، ولَمَّا تَبَيَّن لي أنَّ ما يسعى إليه العالِم المسلم، حين يفزع إلى تقييد سِيرته = إنَّما هو أن يَسُوق بين يَدَيْ كتابته سِيَر أشياخه الَّذين اختلف إليهم، والإجازات الَّتي حازها، والكُتُب الَّتي قرأها، والتَّلاميذ والأقران الَّذين سَعْوا إليه = حينئذٍ أدركْتُ أنَّ في هذه الكُتُب تاريخًا مَخْفِيًّا، قَلَّما اعتنتْ به الكُتُب الَّتي تؤرِّخ للثَّقافة، على ما فيها مِنْ فوائد، وأنَّ عِلْمًا وافرًا، وأخبارًا، وكُتُبًا، ومواردَ مختلفةً، كلُّ ذلك مخبوء في معجمات الشُّيُوخ، حتَّى إذا ما صَبَرَ القارئُ نفسه على قراءتها، إذا به يَعْرِف مِنْ أمر الثَّقافة، والعِلْم، وأحوال العلماء والمؤلِّفين، والبلدان، فوق ما ظَنَّ وحسب.



ومنذ «فهرس ابن خير الإشبيليّ»، ومنذ «فهرس الفهارس والأثبات» للسَّيِّد عبد الحيّ الكتَّانيّ، وإلى يومي هذا، وجدتُنِي مشغوفًا بهذا الضَّرْب مِنَ التَّأليف العربيّ الإسلاميّ، فلَمَّا رغبْتُ في الاستزادة مِنْ هذه الكُتُب، ألفيْتُني، مِنْ حيث لمْ أُقَدِّرْ، أقتني جُمْلةً صالحةً مِمَّا كانتْ دار الغرب الإسلاميّ قدْ أخرجتْه في تحقيق متين، وتنضيدٍ حسن، وكأنَّما كان الحبيب اللَّمسيّ، قدْ جعل العناية بكتب الفهارس والمشيخات، مِنْ غايات داره، فاجتمع لي مِمَّا أخرجتْه هذه الدَّار معجمات وأثبات للقاضي عياض، وأبي طاهر السِّلَفيّ، وابن الجوزيّ، والوادي آشيّ، وابن جماعة، والسُّبْكيّ، والعيَّاشيّ. وحَسْبُكَ أنْ تعرف أنَّ هذا الفنَّ جدولٌ صغيرٌ مِنْ نهرٍ اتَّسع لمختلِف العلوم العربيَّة والإسلاميَّة الَّتي تَعَهَّدَتْها الدَّار بالعناية.



حين تُوُفِّيَ، بالأمس، الحاجّ الحبيب اللَّمسيّ، أدركْتُ قَدْر رَجُلٍ وقف نفسه وماله وصِحَّته على الكتاب وصناعته ونشره، وأنَّ التُّراث العربيّ الإسلاميّ خَسِرَ واحدًا مِنْ رِجَاله الكبار، وأنَّ صفحة دار الغرب الإسلاميّ قدْ طُوِيَتْ، مِنْ بَعْدِه! وسَرْعان ما تذكَّرْتُ أنَّني كنتُ محظوظًا حين جلسْتُ بين يديْ هذا النَّاشر العالِم المثقَّف ثلاث مرَّاتٍ، أتاحهنَّ لي الكُتْبِيُّ الجليل أبو رشيد محمَّد عليّ باغميَّان، وأنشأْتُ أستعيد، في مخيَّلتي، تلك الكُتُب النَّفيسة الَّتي اقتنيتُها، مِمَّا أصدرتْه دار الغرب الإسلاميّ لصاحبها الحبيب اللَّمسيّ، فكان هذا الرَّجل، وكانتْ هذه الدَّار تحقيقًا وتجديدًا لصلاتٍ قديمةٍ ومتجدِّدةٍ بين غرب الإسلام وشرقه، فبينما نشرت «الذَّخيرة في محاسن الجزيرة» لابن بسَّام الشَّنترينيّ، و»منهاج البلغاء وسراج الأدباء» لحازم القرطاجنِّيّ، و»مَلْء العَيْبة» لابن رشيد الفهريّ، و»المحاضرات في الأدب واللُّغة» للحسن اليوسيّ، و»وصف إفريقيا» لليون الإفريقيّ «الحسن الوزَّان»، و»سلسلة التَّراجم الأندلسيَّة» = إذا بها تنشر «معجم الأدباء» لياقوت الحمويّ، و»تاريخ مدينة السَّلام» للخطيب البغداديّ، و»ديوان المعاني» لأبي هلال العسكريّ، و»أمالي المرزوقيّ»، و»غريب الحديث» لابن قتيبة.



أراد الحبيب اللَّمسيّ – رحمه الله – أن يقوِّي تلك العلائق حين اتَّخذ بيروت – في الشَّرق العربيّ – مقرًّا لدارٍ تُدْعَى «دار الغرب الإسلاميّ»، فأسدَى لكلتا النَّاحيتيْن معروفًا لا يُستطاع تقديره، ولولا ذلك ما عرفتْ طائفة مِنَ القرَّاء، وأنا واحدٌ منهم، مؤلَّفات الجِلَّة مِنْ علماء تونس والجزائر والمغرب. فلولا الحبيب اللَّمسيّ، ولولا دار الغرب الإسلاميّ، ما عرفْتُ كُتُب أبي القاسم سعد الله، ومحمَّد حجِّي، وإبراهيم بن مراد، ومحمَّد المنونيّ، ومحمَّد الحبيب ابن الخوجه، ومحمَّد صالح الجابريّ، ومحمَّد محفوظ، وإبراهيم النَّجَّار، ومحمَّد الهادي المطويّ، والطَّيِّب العشَّاش، ومبروك المنَّاعيّ. والجهل بمصنَّفات هؤلاء خسارةٌ كبرى في ميزان العلم والثَّقافة، فاستوى في ميزان المعرفة الاتِّصال بعلماء المغرب، وأعلام العلماء مِنَ المشارقة، مِمَّن اعتنت الدَّار بمؤلَّفاتهم وتحقيقاتهم، ويكفي أنْ أسوق، هنا، أسماء عبد الرَّحمن بدويّ، وإحسان عبَّاس، وبشَّار عوَّاد معروف، وكوركيس عوَّاد، وعبد العزيز الميمنيّ، وعبد العزيز الدُّوريّ، وجليل العطيَّة، ويحيى الجبوريّ، وعليّ جواد الطَّاهر، وهلال ناجي، ومحمود الطَّناحيّ، ومحمَّد عدنان البخيت، ومحمَّد خير البقاعيّ.

كان ذلك قَبَسًا مِنْ عطاء العلَّامة الجليل الحاجّ الحبيب اللَّمسيّ – رحمه الله – وبعض أياديه على تراثنا وثقافتنا، ودَيْنًا له أراه مستحقًّا عليَّ، لا تستطيع هذه الكلمات أداءَه، مهما تَكَلَّفَتْ ذلك.



@hussain_bafagih