أبي وأعظم الدروس وأبلغها أثرا!

الثلاثاء - 16 مايو 2017

Tue - 16 May 2017

مع اختبارات أبنائنا هذه الأيام، تذكرت ليلة دخولي المدرسة بالصف الأول الابتدائي، كان الوالد يردد على مسمعي كلمات وعبارات ما زلت أذكرها، كان يقول: غدا يومك الأول وعمرك الجديد للشقاء، غدا ستبدأ رحلة المعاناة والنجاح في آن واحد.

أتذكر كل صباح حين كانت أمي تنهض مع أول عصفور، وتجهز لنا الماء الساخن في «البراد»، ومن ثم تخلطه بالبارد ليكون أكثر دفئا.. كنت أحمل حقيبتي الصغيرة على ظهري، ووجهي ذابل وشاحب.

كان أبي يردد ويقول لنا دائما إن الشهادة هي القوت والزاد الحقيقي لهذا الزمن، إنها الخبز والبر اللذان ليسا من حقل وبلاد جدك، أعلم يا بني إن هذا الكلام لا يهمك، لأنك من جيل السيريلاك والهمبرجر والبيك، أنت من جيل هؤلاء الذين يعيشون في الفضاء، والطب الذي اكتشف ما عجز عنه أجدادك.

كان دائما يأكل كسرة الخبز التي خبزتها أمي بتنور البيت، هذا التنور الذي نسميه في الجنوب «ميفى» المصنوع من الفخار والمطلي بالطين وروث البقر، كان وهو يحتسي لبن الإبل ينظر إلي ويردد: أمامك العالم الذي لن تعرف سره إلا بالعلم والكتب يا بني.

لا يكتب والدي إلا اسمه فقط، ولا يستطيع قراءته إلا شخص يعرف اسمه، ولكنه كان يقرأ القرآن كاملا، ويقرأ كتب الحديث والتوحيد والفقه وحصن المسلم وأشعار حسان بن ثابت والمتنبي والكثير من الشعراء، وكان مغرما بالتاريخ والسيرة النبوية، كانت لديه قوة حفظ هائلة مكنته من حفظ كثير من الأشعار الشعبية.

كنت أعرف، من خلال حديثه لنا نحن أبناءه، أن التعليم الذي تركه في ثاني يوم من دراسته هو الشيء الأكثر خسارة له في حياته، الثقب الذي ما زال يثور منه دخان بركان ندمه، كان لا يتردد إذا احتاج أحد إخوتي قلما أو دفترا، لدرجة أنه قد يقترض لذلك، وطالما فعل ذلك أمام عيني، كان كثيرا ما يقول: انظروا إلي فأنا فلاح أعزل لا شيء لدي، لا أريد لكم في هذه الحياة سوى أن تتعلموا فقط، وإن كان لي حلم فأنا أحلم بأن تتخطوني كثيرا، وبأن أكون نقطة انطلاقكم، إن أردت شيئا منكم، فإنما أريدكم أن تأخذوا سلاحكم «القلم» أكثر مما أخذت أنا هذا «المحراث»، وأن تعرفوا أهمية الكتب أكثر مما عرفت أنا أهمية الماء للزراعة، وأن تتأكدوا بأن أجمل شيء في الدنيا، الوطن والصحة والقراءة.

كبرت وكبر إخوتي وكان أبي يكبر أسرع منا جميعا، أكملنا مسيرتنا التعليمية في مقاعد الجامعة، لم يتعثر أحد من إخوتي لأننا أبناء أب فلاح، وأم لم تكمل دراستها أيضا لأنها عاشت حياة قاسية جدا لا تزال بعض آثارها باقية بها، ولكنها كانت بمثابة ملكة على عرشها من قوة شخصيتها وصبرها وتحملها فكانت لها أثر كبير داخل نفوسنا في الصمود أمام تحديات الحياة.

أمي التي قطعت حبل الخوف مني قبل أن تقطع حبلي السري علمتني أبجديات الرجولة في وقت مبكر من العمر، وجعلتني أواجه الحياة والناس بجميع أعمارهم أو مناصبهم أيا كانت، بالمنطق والعقل وكلمة الحق.

أكملت دراستي الجامعية وبدأت على والدي آثار المرض والتعب، ولكنه حاول أن يقاوم المرض كما كان يقاوم حرارة الشمس ورمضاء حقله العتيق.

تم تعييني في أحد المستشفيات الحكومية كممارس صحي في أحد التخصصات، وباشرت عملي في نصف شهر شعبان قبل أربع سنوات، بينما دخل والدي للمستشفى في الرابع من رمضان وكان يتمتم ببعض آيات القرآن حينما بدأ بفقدان وعيه ودخل في غيبوبة على إثرها أدخلوه العناية المركزة، ولم يخرج منها إلا في الثاني والعشرين من الشهر نفسه ملفوف اللحاف، مغطى الوجه، مبتسم الشفاه.. ميتا.

إخواني جميعهم أكملوا دراستهم الجامعية فمنهم المعلمات ومنهم المهندس ومنهم من لا يزال ينتظر فرصته الوظيفية.

تمنيت لو أن أبي كان يقف بجانبي وأنا عريس في العام الماضي، ولكن القدر كان أسبق، وكم سألت نفسي كثيرا

من يا ترى سيملأ مكان أبي ليلة زواجي؟!

رحم الله أبي كان رجلا صالحا، كنت أنام عن الصلاة وأتأخر في أدائها، نصحني ذات ليلة حتى سقطت من عينه دمعة، كانت أطهر دمعة تنزل على وجه الأرض، كان الرجل الوحيد في هذا العالم الذي لا ينام صوته، فقد كان آخر صوت أسمعه وهو يقرأ القرآن، وأول صوت أسمعه حين أستيقظ.

ما أصعب هذه الحياة دون أب.. هذا هو الحزن الأبدي، فعندما أضحك أمامكم.. فأنا في الحقيقة أمارس الكذب.. ولكن يبقى إيماني العميق.