المبتعثون وبعض المعوقات الفكرية

السبت - 13 مايو 2017

Sat - 13 May 2017

لم يكن سفري لـ(بوسطن) هينا وأنا أرحل ودمع عيني لم يكفكف حزنا على من فقدتهم قبل رحيلي بأيام، منهم من استشهد مدافعا عن دينه وبلاده ومليكه، ومنهم من حق عليه الكتاب، وهذه الأحداث التراجيدية من المؤكد أنها تذهب بلب الإنسان وتفقده الاتزان.

إلا أن استقراري النسبي في (دنفر) بعد فترات تنقل وتغرب طويلة، وشغفي بما أولعت به من الدكتور الكبير إدوارد سعيد الذي نمى حس المسؤولية لدى المثقف باتجاه مجتمعه، جعلني مستلا قلمي مجددا كمثقف لتسليط الضوء على بعض الظواهر غير الإيجابية المعيقة لما يطمح له صانعو القرار من نجاح برنامج الابتعاث كما خطط له.

وإذا كان إدوارد سعيد يرى أن أهم دور للمثقف هو مواجهة السلطة نصرة لأفراد مجتمعه، فإني أرى أن أهم دور يقوم به المثقف السعودي نصرة لمجتمعه هو مواجهة سلطة العادة والتقليد، لأنها العائق الأكبر في مسيرة انتقال هذا المجتمع لمصاف ركب الدول المتقدمة اقتصاديا وعلميا، وهذا العائق لم يبق مهيمنا في منابعه، بل أصبح عابرا للقارات ومقصيا لكل من يعارضه، وفيما يلي بعض النقاط:

أولا: لا بد للقائمين على برنامج الابتعاث أن يغرسوا الغاية الوطنية منه في نفوس المبتعثين، والغاية من إنشاء هذا البرنامج هي الاستثمار في الإنسان السعودي، وأنه ليس لتحقيق مصالحهم الشخصية، وأنهم الثروة غير الناضبة لهذا الوطن، هذه هي الغاية وهذا هو المراد من ضخ هذه المليارات في هذا البرنامج، فالابتعاث ليس إلا إتاحة فرصة تعليم وتطوير هذا الإنسان للدراسة بأفضل الدول والجامعات العالمية، لنهل العلم واكتساب التجربة والخبرة والرجوع بها للوطن، إلا أن ما ألحظه من تجاربي في الابتعاث من 2007 حتى 2017 هو تركيز المرشدين أو من يتم جلبهم لإقامة المحاضرات للطلبة كان منصبا على تغذية النزعة الفردانية في شحذ همم المبتعثين، (هذا مستقبلك وهذا مصيرك.. إلخ)، وبهذا الشعور أصبح الفرد المبتعث يعيش الانهماك في زاوية تغذية (الأنا) دون سواها، فتجده يسابق الركب ويحث الخطى ويتصدر المشهد، وهو لم يتقن بعد لغة البلد المبتعث إليها، والبعض يمني النفس بأن يظفر برئاسة النادي السعودي ويسيطر عليه، وليس هدفه من ذلك خدمة زملائه المبتعثين أو إرشادهم أو إقامة المبادرات التي تهمهم، وإنما هدفه تعزيز مصالحه الشخصية وعلاقاته! ما هذه الأنانية؟ أليس السبب هو تغذية الشعور بالفردانية والابتعاد عن تغذية الشعور بالانتماء، وفقدان البوصلة لدى الطالب المبتعث؟

ثانيا: من المعيقات التي قد يحملها المبتعث هو ما تم تغذيته من بعض التيارات بوجوب حمل (هم الدعوة!) والدعوة كلمة فضفاضة تحتمل أكثر من معنى، ولكل تيار طريقته في تفسير ذلك وفق ما يتناسب مع أيديولوجيته، فيعيش المبتعث المغذى بذلك تحت ضغط مسؤولية غير المسؤولية المبتعث من أجلها، فأصبح المبتعث يتراوح بين مسؤوليتين التعليم و(الدعوة)، ويستمر يعيش في عقدة ذنب أنه لم يقم بواجبه الآخر، فربما عدم تمكنه من اللغة لم يسعفه من دعوة أصحاب الديانات الأخرى، فرجع على المبتعثين والمبتعثات يمارس سلطة المرشد الديني وأعمال الحسبة والوصاية على الطلاب عبر الحدود، وكأن أهالي المبتعثين كلفوه بذلك!

ثالثا: مفهوم الانسلاخ لدى المبتعثين مشوه فالبعض يرى أن (الاختلاط بين السعوديين) فقط هو الانسلاخ! الله أكبر فلا تعرف السعودية النقاب أو اللثمة إلا عندما ترى أخاها السعودي! والسعودي لا يرى أخته السعودية غير المنقبة إلا منسلخة! والأطرف من ذلك أن أحد الأندية السعودية أقام حفلا للطلبة ووضع لافتة ممنوع حضور الرجال يقصد (السعوديين) فقط! حرصا على (الهوية من الانسلاخ) ومن يقدم المأكولات لعائلاتهم (رجال) أجانب! ما هذا الاستشراف والانفصام؟ واليوم الثاني صباحا يدرس الجنسان مع بعضهما في «الكلاسات» نفسها!

ثالثا: عيش المبتعثة السعودية تحت تأثير أفكار بعض التيارات التي صورت لها الرجل السعودي أو الرجل بشكل عام كذئب بشري مفترس جعلها أكثر الأطراف تضررا وأقلها تكيفا مع البيئة الجديدة، وتسبب هذا الأمر في إعاقة الكثيرات منهن في تحقيق ما يصبون ويصبوا الابتعاث إليه.

رابعا: المبتعثة الأساسية المتزوجة أكثر من يعاني من تأثير سلطة العادة، فتجد الزوج غالبا غير متقبل أن زوجته تكون مستغنية عنه، أو أنه تابع لها، وتجده يمارس أنواع الممارسات لإشعارها بالحاجة إليه، وأنها تحت سيطرته، وهذه السلطوية تعوق الناجحات صاحبات الطموح، ولذا فإن مسألة المحرم ربما تحتاج إلى مرونة في التغيير لمن يعانين من عدم توافق مع الزوج، وعلى المبتعثة أن تحارب من أجل قدرها، وتقدم بلدها وماذا تنتظر؟ هل تنتظر (ترجع تبيع ورق عنب في الانستقرام)؟

ختاما، النقاط آنفة الذكر غير قابلة للتغيير لأناس يمارسون الإقصاء العلني والخفي لمن لا ينسجم مع الانفصامات الفكرية التي يفرضونها واقعا معاشا في بلدان الابتعاث على بني جلدتهم، ولك أن تتخيل أن هؤلاء مفترض فيهم أن يأتوا بعلم ومنجزات ومخترعات تغير واقع السعودية الحضاري والثقافي والاقتصادي في تصور رؤية 2030 لمستقبل ما بعد النفط.

الأكثر قراءة

جميلة عادل فته

رجال الأمن.. رجال