تشيؤ القيم

الأربعاء - 10 مايو 2017

Wed - 10 May 2017

عرف الفيلسوف المجري جورج لوكاش «التشيؤ» في منتصف القرن الماضي بأنه عبارة عن تحويل العلاقات بين البشر والمجتمعات إلى مجرد أشياء، فينظر المتشيئ إلى قيم مجتمعه وتاريخه وتراثه على أنها مجرد قوى غريبة عنه.

وفي مجتمعاتنا هناك حالة من التشيؤ يقوم بها بعض الأفراد، خاصة من يختلطون بالثقافات الأخرى، فعندما يبتعد الفرد عن مجتمعه يشعر أن قيمه وعاداته وتراثه مجرد أشياء مفككة، فيقوم بنزعها عن سياقها التاريخي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ويضعها في قالب منفصل تماما عن الإنسان وظروفه المحيطة، وبالتالي يخضعها لميزان المنفعة والضرر، فيشعر أن هذه القيم مجرد قوى غريبة عنه، فلا يستطيع نقل ثقافة مجتمع أعجب به إلى مجتمعه، لأن القيم والعادات الموجودة في كل مجتمع مترابطة بشكل منسق، وتتسق مع تفاعلات وهوايات وتاريخ ومشاكل الناس في هذا المجتمع، فلا تستطيع الفصل بين قيم الناس وتفاعلاتهم ومشاكلهم، لأن هذه القيم جاءت متسقة مع هذه التفاعلات، وبعضها حلول لمشاكل تواجههم.

فعملية التغيير للعادة السيئة لن تنجح إذا لم نحدد الظروف التاريخية لنشوئها والحاجة الاجتماعية والاقتصادية لها، ثم العمل على تغيير هذه الظروف عندها ستتغير هذه العادة تلقائيا. مثلا لا تستطيع إلغاء ثقافة «التدخل بشؤون الآخرين» بالطريقة التقليدية والنقد المباشر والتسخيف دون معرفة الظروف المؤدية لوجودها ومن ثم معالجتها، فهذه العادة مرتبطة بقوة التفاعل بين أفراد المجتمع، وهذا التفاعل مرتبط بتركيبة العائلة والتفاوت في الدخل الاقتصادي بين الأسر، ومرتبط بعوامل تاريخية واجتماعية وسياسية، لذلك تحتاج لتغييرها إلى تفكيك كل هذه العوامل والتفاعلات والتركيبات المعقدة، ثم تغيير هذه الظروف وستتغير هذه العادة تلقائيا. فالتشيؤ هنا عندما نعزل هذه العادات وظروف نشأتها عن الإنسان ونعتبرها مجرد أشياء مفككة.

أثناء محاولات الفرد تغيير هذه العادات بنزعها عن سياقها التاريخي يدخل في حالة من الإنكار، ويشعر أن هذه القيم مجرد قوى غريبة عنه، وبالتالي يحدث صراع بين هذا الفرد ومجتمعه، فينظر لهذه القيم على أنها مجرد أشياء مادية قيمتها بمنفعتها فقط، بينما يعتبرها المجتمع قيمة بحد ذاتها. فالشعر مثلا لو تناولته كقيمة مادية وحولته لمجرد شيء ونزعته عن سياقه التاريخي والمجتمعي يصبح بلا منفعة مادية كبيرة توازي استمرار بقائه، لكن لو وضعته في مساره التاريخي وربطته بتركيبة المجتمع وعلاقته بالتفاخر والأنساب وتركيب الأسرة والقبيلة في المجتمع الخليجي والعربي، لاتضحت الرؤية وأصبح وجوده منطقيا ومتسقا مع تركيبة المجتمع.

فكلما اقترب الفرد من الحرفية وتحويل القيم في مجتمعه إلى أشياء انعزل وبقي في دائرة الاغتراب، فلا يستطيع تغيير هذه العادات من جهة، ولا يستطيع التأقلم مع مجتمعه دون التصادم مع أفراده من جهة أخرى. فبهذا التشيؤ يخلق مسافات كبيرة بينه وبين المجتمع، مما ينفر المجتمع من أفكاره الأخرى، ويحرم المجتمع من تقبل مساهماته في بناء مجتمعه.