الحكم الجنائي والمسؤولية المدنية

الثلاثاء - 02 مايو 2017

Tue - 02 May 2017

هناك علاقة مباشرة بين الإجراءات الجنائية التي تتم أمام المحاكم الجنائية والمسؤولية المدنية المرتبطة بنفس القضية والمنظورة أمام المحاكم المدنية ذات الاختصاص. مثلا، في قضايا عديدة كالتزوير أو خيانة الأمانة نجد بها شقا جنائيا يتم النظر فيه أمام المحاكم الجنائية للحكم بالإدانة الجنائية، وأيضا هناك شق مدني للمطالبة بالمبالغ والتعويضات يتم النظر فيها أمام المحاكم المدنية للفصل في المبالغ والتعويضات وأحقيتها ومقدارها. والأنظمة والقوانين الإجرائية المدنية أو الجنائية بها العديد من الأحكام التي تتناول تنظيم مثل هذه الحالات ذات الاعتبار، وذلك حتى تسير المحاكم وكافة المؤسسات العدلية المختلفة على هدي هذه الأحكام.

وفي البداية، لا بد من أن نقول إن معيار وزن البينات أمام المحاكم الجنائية مختلف تماما عن الوضع أمام المحاكم المدنية، إذ في الأولى «المحاكم الجنائية» يجب توفر الإثبات والبينة بما لا يدع مجالا للشك. وأي شك يجب أن يفسر لصالح المتهم ويطلق سراحه وألف مجرم طليق خير من بريء واحد في السجن، وهنا كما هو واضح فإن المعيار ثقيل جدا. أما في الثانية «المحاكم المدنية» فإن البينات تؤخذ وفق مبادئ الإثبات والبينة، بحيث يتم ترجيح الاحتمالات بين ما يقدمه المدعي والمدعى عليه، ومن ترجح كفته وفق البينات المقبولة والمتوفرة أمام المحكمة يتم الحكم لصالحه.

وهذا التباين في معيار الإثبات أمام المحاكم الجنائية والمدنية، يعتبر من الاعتبارات القانونية المهمة التي استوجبت الحكمة من تقيد القاضي في المحاكم المدنية بالحكم الصادر من القاضي في المحاكم الجنائية. وهناك اعتبار آخر، يستند إلى المنطق السليم الذي يستوجب قبول الحكم الجنائي البات والنهائي الصادر من المحاكم الجنائية، خاصة وأنه بلغ أعلى درجات التقاضي حتى وصل للمرحلة النهائية الباتة.

وأنظمة وقوانين الإجراءات الجنائية تتضمن أحكاما مهمة، فهي مثلا تنص، إذا بدأت إجراءات الدعوى المدنية أمام المحكمة المدنية المختصة فإنه يجب وقف هذه الإجراءات أمام المحكمة المدنية ويجب وقف الفصل في الدعوى المدنية ويستمر وقف الفصل حتى يصدر حكم بات ونهائي في الدعوى الجنائية المقامة قبل رفع الدعوى المدنية، أو حتى تتم في أثناء السير في إجراءات الدعوى المدنية أمام المحكمة المدنية المختصة.

وهذا الحكم العام به استثناء، ينص على أنه يجوز الفصل في الدعوى المدنية أمام المحكمة المدنية، إذا تم وقف الفصل في الدعوى الجنائية لإصابة المتهم بعاهة في عقله لانتفاء وانتهاء المسؤولية الجنائية بسبب الجنون أو العاهة في العقل.

وهنا، ووفق هذه القاعدة العامة، بخصوص العلاقة بين الإجراءات أمام المحاكم الجنائية ونظيرتها المحاكم المدنية، فإننا نلاحظ أنه يتم وقف الإجراءات أمام المحكمة المدنية حتى يصدر حكم بات ونهائي في الدعوى المنظورة أمام المحاكم الجنائية. وهذا الحكم الجنائي البات والنهائي قد يأخذ فترة قصيرة أو قد يستمر لفترة طويلة جدا، وفي جميع الحالات يجب وقف الإجراءات تماما أمام المحكمة المدنية.

ويشترط في الحكم الجنائي حتى يكون له حجية الحكم الجنائي في دعاوى المسؤولية المدنية أمام المحاكم المدنية، أن يكون صادرا من محكمة جنائية مختصة، أي أن يكون حكما قضائيا من محكمة لها ولاية نظر النزاع، وأن يكون سابقا الحكم المدني واستقرت به الحقوق، وأن يكون هذا الحكم باتا نهائيا واستوفى تماما كل درجات التقاضي والاستئنافات.

ومن الأحكام القانونية الإجرائية المهمة، أنه يجوز للقاضي أمام المحاكم المدنية ألا يرتبط بالحكم الجنائي الصادر من المحاكم الجنائية إلا في الوقائع التي فصل فيها هذا الحكم وكان فصله فيها ضروريا، ومع ذلك فإن القاضي أمام المحاكم المدنية لا يرتبط بالحكم الصادر بالبراءة إلا إذا قام على نفس نسبة الواقعة على المتهم، ولتوضيح هذا مثلا نقول: إنه لا حجية للحكم الجنائي الصادر من المحكمة الجنائية بالبراءة في تهمة التزوير في المديونية مثلا وعلى المحكمة المدنية المختصة البحث في تفاصيل واقعة المديونية ذاتها لتقرر في الشق المدني بالمبلغ والتعويض.

أما بالنسبة لحجية الحكم الجنائي الصادر بالإدانة في جريمة إعطاء شيك بدون رصيد على الدعوى المدنية المرفوعة للمطالبة بقيمة الشيك، فهناك سابقة قضائية مهمة في البحرين وتتمثل وقائع الدعوى في أن الزوج وفي لحظة سعادة وفرح وحبور مع زوجته حرر لها شيكا بدون تاريخ بمبلغ مليون دينار بحريني.. ومع مرور الزمن دبت الخلافات الحادة بين الزوجين، وقدمت الزوجة الشيك للنيابة وصدر حكم بالإدانة ضد الزوج لإصدار شيك دون رصيد.

ولاحقا طالبت الزوجة وبموجب الحكم الجنائي الصادر ضد زوجها بمبلغ الشيك أمام المحاكم المدنية. الزوج قال إنه لم يكن جادا عند تحرير الشيك بدفع أي مبلغ من المال، وأن الأمر لم يكن جديا على الإطلاق، والمهم في الأمر أن المحكمة المدنية لم تمنح الحجية للحكم الجنائي الصادر بالإدانة ضد زوج المدعية وعليه لم تلزمه بسداد مبلغ الشيك.

المهم في الأمر، أن هناك حالات عديدة للتداخل في الإجراءات المتبعة والمقامة أمام المحاكم الجنائية والمدنية، وهذا التداخل له خصوصيته وأحكامه التي يجب الإلمام التام بها حتى تتوفر العدالة بشقيها الجنائي والمدني. ولا بد من فهم الأحكام والأنظمة القانونية التي تتناول هذا التداخل حتى لا يحدث تغول في اختصاص المحاكم، ومن هذا قد تتضرر الأطراف وتنتهك العدالة فقط لمجرد أسباب إجرائية لم يتم استيعابها لأي سبب كان.