حسين بافقيه

تدمير الرموز

الجمعة - 28 أبريل 2017

Fri - 28 Apr 2017

لا أذكر أنَّنا ردَّدْنا بيت أبي نواس المشهور:

قُلْ لِمَن يَبْكِي عَلَى رَسْمٍ دَرَسْ

وَاقِفًا مَا ضَرَّ لَوْ كَانَ جَلَسْ!



إلا كان لنا أحد حالين: أن نضحك ونمعن في الضَّحك، ونحن نتخيَّل ذلك الشَّاعر البدويّ يبكي طللا دارسًا، أوْ نتَّخذ هذا البيت شاهدًا على شعوبيَّة أبي نواس، حِين سخر، وأمعن في السُّخر، مِنْ وقوف الشَّاعر العربيّ على الطَّلل.



لم نكن - وأقلّه لمْ أكنْ - لِنُعير هذا البيت فوق المعنى الذي سقناه للدّلالة عليه، نعمْ عرفتُ مِنْ أقوال النقاد والمؤرخين ما جلا شيئًا من نبئه، غير أنَّني لم أَعْدُ تلك الأقوال، وربما كان يعنيني من أمره الشاهد والمثل، وربما ما انطوى عليه من نكتة وطرافة.



وأغرب ما في صلتي بهذا البيت أنَّه، وهو الساخر الهازئ - لم يبدل من ذلك الهوس الذي صاحبني، وأنا أقرأ الشعر القديم، فلا يزال للشعر القديم سطوته على عقلي ووجداني، ولا أزال، مع كر الأيام وتقلب الأفكار، مأخوذًا بتلك الأشعار، التي تساق إلينا في جمال رخيّ لا يتكلف له الشاعر إلا أن يكون أدنى إلى بيئته ولغته وحاله، وأحار لذلك السر الذي يتدسس في أثنائه، فيهب القارئ على قدر توغُّله في الشِّعر، وأعجب ما في هذا الشِّعر اليسير السَّاذج أنه لا يبوح بكلّ أسراره، وإنَّما يمسك شيئًا منها، فعسى أن يثبت للدهر فوق ما ثبت، فقرأه العرب والعجم خمسة عشر قرنًا من الزَّمان أو يزيد، وهو الجديد الفتيّ.



ربَّما اعتدَّه نقَّاد الأدب ومؤرخوه حدثًا له شأنه وهُمْ يقيِّدون ما عَرَا الأدبَ العربيَّ من ضروب التَّغيير في بداءة العصر العباسي، وما لأبي نواس من سهم في الخروج بذلك الأدب إلى منازع جديدة عُرِفَ بها، ومن المقرَّر أنَّهم عرفوا له إقدامه وجراءته إذ نحا بالشِّعر نحوًا جديدًا وغريبًا، وأقرب الظَّنّ أنَّ هذا البيت وضروبًا تشبهه في المنزع والغاية إنَّما سيق للشَّاهد والمثل، فليس للقوم من غرض إلَّا إثبات تحوُّل الشِّعر عن أصله القديم، وانصرافه عن جذوره العربيَّة الَّتي اغتذى بها، لكنَّه أفلح، قليلًا أو كثيرًا، في الحطّ من المقدِّمة الطَّلليَّة وشِعْر البدو عامة، وعُدَّ ما فعله أبو نواس وأضرابه من شعراء العراق نصرًا ظفرتْ به المدينة العربية وانتزعته انتزاعًا من الصَّحراء الَّتي استأثرت بالشِّعر القديم أزمنة متطاولة.



استبدل النُّواسيّ قديمًا بقديم، الخمريَّة بالطَّلليَّة، واستبسل في تقرير جديده الَّذي جاء به، ونالت قصائده من ذلك الشِّعر البدويّ، وجَدَّ في ذلك، حتى لكأنَّ الحطّ من شِعْر الجاهليِّين عقيدته الَّتي يعتقدها ويناضل عنها، وجاز ما يؤمن به ويعتقده حدود الفنّ، وبلغ به إزراؤه بقديم النَّاس، أنْ حمله السُّلطان على الإشفاق بالأطلال، وعلى مُحاسَنتها فقال:



أَعِرْ شِعْرَكَ الأَطْلَالَ وَالدِّمَنَ القَفْرَا

فَقَدْ طَال ما أزرى به نعتك الخمرا

دعاني إلى نعت الطُّلُول مُسَلَّطٌ

تَضِيقُ ذِرَاعي أنْ أَجُوزَ له أمرا

فسمعٌ أمير المؤمنين، وطاعةٌ

وإنْ كنتَ قد جشَّمتني مركبًا وعْرا



وحقَّ له أن يشكو ذلك المركب الوعر، حين حمله أمير المؤمنين على غير ما يهوى، ولطالما بكى الخمر بكاء الجاهليِّين الدِّمَن:



لتلكَ أبكي، ولا أبكي لمنزلةٍ

كانتْ تحلُّ بها هندٌ وأسماءُ!



لكنَّ تلك القصائد ذوات العدد، على ما تكلَّف لها الشَّاعر فنًّا وصنعةً، لم تنطوِ على هذه القسوة القاسية الَّتي انطوتْ عليها تلك النُّتفة الشِّعريَّة ذات أربعة الأبيات، وليس ببعيد أنَّ أبا نواس إنَّما صدح بها، في حالة من الجذل والنَّشوة، فجاءت على هذه الهيئة من السُّخْر والتَّشنيع، ولعلَّ القارئ إذ يقرأها، سرعان ما يتصوَّر في خياله هيئة ذلك الشَّاعر الواقف بالأطلال لا يلوي على شيء، وذلك الصَّوت الشَّفيق، وإن كان ساخرًا ماجنًا، يشفق عليه من طول الوقوف في الهاجرة إزاء رسم عفا ودَرَسَ، ويبلغه أنْ لا ضرر عليه لو جلس!



والحقّ أنَّه لا لوم على أبي نواس إذ لم يحسَّ أثرًا للرُّسوم الدَّوارس في نفسه، إنَّه لم يعشْ، وهو في بغداد وما إليها، عيشة الشَّاعر البدويّ في صحرائه، وليس بشيء عنده رسْم دَرَس وطلل عفا، وعساه أدرك أنَّ الشَّاعر يصنع رموزه ولا يستعيرها، وهو، على كلٍّ، أحسَّ أن في الخمرة سِرًّا، وعلى شِعْره أن يفكّ رموزه، فإذا كان للجاهليّ قديمه، فللنُّواسيّ قديمه، فالشَّاعر لا يستعمل الكلمات، إنَّه يحسُّها ويدرك ما فيها من طاقة، والمقابلة بين “الطَّلل الدَّارس” و”الخمر” إنما استقام لها منهج في شعر أبي نواس، وينبغي لنا، ونحن نقرأ خمرياته، أنْ نسكت عنْ فجوره، وأنْ نستدلَّ رأسًا إلى أخصّ خصائصها؛ الفنّ الشِّعري فيها، بَيْدَ أنَّ ممَّا له صلة بالفنّ وبالشِّعْر ذلك الحنين الَّذي تبعثه الأمكنة، وكأنَّه أصل جُبِلَ عليه الإنسان إزاء طلل دارس أو بيت متهدِّم، فثمَّ حياة غالتها يد الدَّهر، وأنفاس طالما أمضَّها الشَّوق فالتهبتْ، وما هكذا الخمر، إلَّا إذا كان النُّواسيّ قد دفعه ما هو فيه مِنْ تبكيت وتدمير لتلك الرموز إلى مقابلة الخمر بالطَّلل.



[email protected]