الإذاعة بين جيلين

الجمعة - 14 أبريل 2017

Fri - 14 Apr 2017

يتحرج بعض إعلاميي هذا الجيل حال مقارنتهم بجيل الرواد، عمالقة الإعلام المخضرمين، فالنفيس في تلك الحقبة لا يمكن إسقاط نفسه وقيمته على نفيس هذا الجيل، فلكل حقبة نفيسها، ولكل جيل ثمينها وقيمها. والتمايز بهذا الشكل يفتقر للرؤية والموضوعية السليمة مع تواطؤ باعثه الشغف لزمن الجيل الجميل، وعشق الفن الأصيل على حد زعمهم بالطبع، وبذلك يرون أن المقارنة بين الجيلين فيها من الإجحاف ما يفقدهم حق الظهور، ويسلبهم بعضا من الفضائل والمميزات والتي لم تكن في سلفهم من إعلاميي ذاك الزمن.

وكمعاصر لكلا الجيلين على مدى عقدين ونيف، في وسعي القول إن الحرج الذي اعترى بعضا من زملاء المهنة لا مكان له على الإطلاق، وهو غير قابل لنظرية التواطؤ المفتعلة بداعي الشغف والعشق، فمعيار التفاضل هنا لا يخضع للرغبات البشرية ولا للعواطف الجياشة، والفروقات فيهما جلية، والتفاوت بينهما بين، وإن تضافرت الجهود والمثابرة لإثبات الذات من قبل مذيعي هذا الجيل، ولا أدل على هذا التفاضل من أن ليس ثمة مذيع حتى الآن قادر على أن يأتي بقرينة تلغي هذه الأفضلية، علاوة على أن ليس هناك إعلامي بارز يمكن أن يشار إليه بالبنان أو بلغ عنه مكانة يمكن أن يوصف بها كتلك التي التصقت بهم، أو حملوا ألقابا كتلك التي لحقت بذاك الجيل.

والمتابع للمشهد الإعلامي الآن يمكنه ملاحظة كامل الفروقات، وقادر كذلك على إدراك جميع الاختلافات، فحالة لغة الإعلام اليوم على سبيل المثال تكاد تصاب بالوهن، أو قد أصيبت بالفعل، فقد باتت هذه اللغة رديئة الطابع، مملة المتابعة، تفتقد لمتعة الإصغاء التي كانت ترغب الناس سابقا وتجذبهم للإصغاء لنشرات الأخبار عبر المذياع، أما الآن فقلما تجد ذلك، وقلما تجد متلقيا يمكنه أن ينصت لمذيع دون أن يخرج منه بحصيلة من الأخطاء اللغوية أو السقطات النحوية، وهكذا هو واقع الحال في الخروج عن النص. أما الحضور الذهني فحدث ولا حرج، فهذا لم يعد يسعف أحدا في إدراك التساؤلات المفاجئة لتداخلات الضيوف، ولا الإلمام بثقافة الطرح أيضا التي يمكنها أن تشفع في إنفاذ ما يتم نقاشه، ناهيك عن الاضطراب البين في إيقاع المفردات، وتسلسل الكلام، وهي العلامة البارزة في معظم الإذاعات الآن، وهو ما يؤدي بالتالي إلى نفرة المستمع، وهي ما كانت تعد سابقا أحد العيوب التي تخدش في شخصية المذيع، وتبخس من فرص اعتماده في العمل الإذاعي، كونه أخل في أدائه بقاعدة مهمة من قواعد العمل الإعلامي، وركاكة الأسلوب هنا ليست بأوفر حظا من سابقتها. هناك نقاط أخرى لا يسعني ذكرها، لكن وعلى كل حال فليس هناك أدنى شك أن المسافة بين كلا الجيلين لا تزال متسعة، والبون خلالهما شاسع، رغم فارق الإمكانات التي تجير الآن لصالح هذا الجيل.

وفي الوقت نفسه لا يمكننا أن نتجاهل حقوق الآخرين، أو نغفل عن قدراتهم بالكلية، فمصادرة تلك الجهود تعد نوعا من النكران، وإن لم تصل هذه القدرات إلى مراحل متقدمة في الأداء فهناك طاقات تبذل ما بوسعها كي تصل إلى درجات عليا ومراتب راقية. وإعجابنا بجيل الرواد لا يلغي الإشادة بهم، لكن الرقي أو التطور المنشود لا يمكن أن يتحقق دون أن يكون هناك اعتراف بالأجدر، وإقرار بالأفضل، والتباين بين الطرفين قد يخلق نوعا من الصراع المشحون بالحميمية، ويوجد تنافسا مفعما بالإيجابية، هذا إذا ما وظف المذيع قدراته للحصول على مخرجات أفضل دون أن يخل بقيم الإنسانية، أو يستخف بها، فاحترام عقلية المتلقي أولوية قصوى. وهنا - والرأي لي - يكمن جوهر الفرق، فإعلاميو ذلك الزمن الجميل كانوا يمتلكون حسا إذاعيا لا مثيل له على الإطلاق في احترام الذوق العام، فإذ ما امتلك المذيع الإمكانات اللغوية والقدرات الحسية وعشق الميكرفون أصبح حينها مذيعا إعلاميا بدرجة امتياز. ولا ننسى أن نضع في الاعتبار أن جيل العمالقة آنذاك كانت ينقصه الكثير من الإمكانات المتاحة اليوم، فعامل التقنية ووفرة الأجهزة الفنية لا ريب أن لهما أدوارا مساندة، لكن يظل لكل زمان.. إذاعة ومذيع.