سليمان الضحيان

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنطق الدولة الحديثة

الاثنين - 27 مارس 2017

Mon - 27 Mar 2017

النص الشرعي - في غير العبادات المحضة والأخلاق الكلية - ليس متعاليا على الواقع، بل إنه في كثير من أحكامه نتاج للجدلية مع الواقع الذي ينزل الفقيه عليه النص، فالفقه التراثي في هذا الجانب هو تنزيل للنص الديني على وقائع القرون الهجرية الأولى حين نشأت المذاهب الفقهية، وبما أن منطق الدولة، وعوائد الناس، وطرائق معيشتهم، وحركة الاجتماع البشري استمرت على مدى قرون متطاولة من دون تغيير جوهري فمن البدهي أن تكون الأحكام الفقهية المستنبطة في هذا الجانب صالحة لتلك القرون السالفة.



وفي العصر الحديث حدث تغيير جذري في حركة الاجتماع البشري، وهذا يستلزم أن يتبعه تغير في أحكام الفقه - في غير العبادات المحضة والأخلاق الكلية - وفق متطلبات الواقع الذي يُنَزَّل عليه النص الشرعي؛ لتتحقق صلاحية الشريعة لكل زمان.



ولنقصر حديثنا على (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فقد كان واقع الدولة في تاريخنا الإسلامي قائما على أمرين، الأول: أن لها خيارا دينيا، من مهمتها المحافظة عليه، والدعوة إليه، ومعاقبة من يخالفه، والثاني: محدودية سلطتها على الشأن العام، فمهمتها تنحصر في منع اعتداء الناس بعضهم على بعض، وحماية الثغور، والمحافظة على شعائر الدين الظاهرة، وتعيين القضاة للفصل في قضايا الخصام، وتعيين المحتسبين لمنع الغش، هذا الواقع للدولة آنذاك نتج عنه ترك مساحة هائلة في المجتمع دون تنظيم، خاصة في غير المدن الكبيرة، وهذا ما أعطى أفراد المجتمع سلطة هائلة لتنظيم مجتمعاتهم، ويأتي عالم الدين على رأس هرم المجتمع في هذه السلطة، وتنظيرات العلماء في التراث في قضايا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هي لهذا الواقع الذي يعايشونه آنذاك.



ما الذي اختلف في العصر الحديث؟



في العصر الحديث حدث تغير جذري في بنية الدولة ومهمتها، فالدولة الحديثة تتميز فيما يخص قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأمرين، الأول: أن الدولة قائمة على مبدأ المواطنة، فالدولة لكل أفرادها على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، وقومياتهم، وليس من حق فئة أو مذهب أو تيار قسر المواطنين الآخرين على متابعته في مذهبه أو فكره حتى لو كان يمثل الأغلبية، فإن حق الأقلية للتعبير عن نفسها مكفول في دستور الدولة الحديثة.



الأمر الثاني: أن سلطة الدولة تضخمت تضخما هائلا من حيث شمول سلطتها على كل الرقعة التي تقوم عليها الدولة، ومن حيث شمول سلطتها غالب مناحي حياة الناس، وذلك بسن قوانين ملزمة تنظم حياة المجتمع، ومن هنا فالدولة الحديثة احتكرت (السلطة)، ولم يعد لأفراد المجتمع بجميع طبقاتهم سلطة الأمر والنهي والتغيير؛ لأن هذا يعد تعديا على سلطة الدولة، وهنا نسأل: هل معنى هذا أن شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انتهت في نظام الدولة الحديثة؟



الحق أنها لم تنته، ولكنها تمظهرت من خلال ثلاثة مظاهر، المظهر الأول: أن غالب قضايا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصبحت ضمن القوانين التي سنتها الدولة الحديثة، كأنظمة البلديات، والمرور، والتجارة، والعمل، والصحة وغيرها.



والمظهر الثاني: أن مهمة الفرد في قضية التغيير بواسطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدولة الحديثة تكون بالسعي لتغيير القوانين التي تتحكم في تنظيم المجتمع، وذلك من خلال العملية السياسية بما فيها من انتخابات وبرلمانات تسن تلك القوانين.



والمظهر الثالث: بقاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في صيغتيه (باللسان)، و(بالقلب)، فللأفراد تنظيم أنفسهم من خلال منظمات المجتمع المدني لطرح رؤاهم وأفكارهم في كل ما يحدث في مجتمع الدولة الحديثة.



والملاحظ على من ينظّرون اليوم لقضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنهم يستمدون تنظيراتهم من مقولات أو تصرفات علماء عاشوا في قرون سابقة، كانت مقولاتهم وتصرفاتهم وفق منطق واقعهم آنذاك، والانتقال بتلك المقولات والتصرفات لواقعنا اليوم مثل من يستدل بآداب حاجب السلطان وهو يتحدث عن سكرتارية مجلس الوزراء.



[email protected]