مصيدة الفقر

الأربعاء - 22 مارس 2017

Wed - 22 Mar 2017

إن الفقر هو نتيجة طبيعية للسياسات الخاطئة أو غير المكتملة، فجزء كبير من الحلول التي تقدمها الدول العربية بشكل عام للارتقاء بمستوى معيشة المواطن غير مجد، فتوفير الوظائف للمواطنين سواء في الحكومة أو القطاع الخاص يجذر من حالة الفقر، ويحدد بشكل واضح مستوى الدخل، فمن يبدأ حياته في وظيفة ما سيبقى طوال عمره ينتظر زيادة في راتبه أو هدية مالية تقدر ببضع ريالات.

ولك أن تتخيل أن الفقر أصبح صناعة تعمل على نشرها الدول الكبرى، خاصة أمريكا في الدول النامية، وهذا من خلال الترويج لبعض السياسات الاقتصادية تحت اسم العولمة، وعلى الدول التي تريد أن تتقدم وفقا لسياسات أمريكا خصخصة الصحة والتعليم وخدمات المياه والكهرباء، وبعد ذلك إلغاء الدعم وجميع القيود التجارية التي تحمي الصناعة الوطنية، بينما أمريكا وشركاؤها من الدول الصناعية الكبرى مستمرة في تقديم الدعم لهذه القطاعات، وفرض القيود لحماية صناعاتها، ولعل اتباع الدول النامية هذه السياسة هو ما أدى إلى زيادة مديونية العالم الثالث لـ 2.5 تريليون دولار، وخدمة هذه الديون بلغت 375 مليار دولار سنويا في عام 2004، وهو رقم يفوق ما تنفقه كل دول العالم الثالث على الصحة والتعليم، ويمثل عشرين ضعف ما تقدمه الدول المتقدمة سنويا من مساعدات خارجية.

ووفقا لجون بيركنز، الخبير الاقتصادي الدولي، فإنه عمل مع العديد من الخبراء الاقتصاديين على الترويج لبعض النظريات الاقتصادية في الدول النامية لتسهيل النهب الاقتصادي من خلال الشركات الكبرى، ويعترف «بيركنز» أنهم دفعوا الإكوادور إلى الإفلاس، ففي ثلاثة عقود ارتفع حد الفقر من 50% إلى 70% من السكان، وازدادت نسبة البطالة من 15% إلى 70%، وارتفع الدين العام من 240 مليون دولار إلى 16 مليار دولار، وتخصص الإكوادور اليوم قرابة 50% من ميزانيتها لسداد الديون. ولم يكن أمام الإكوادور لشراء ديونها سوى بيع غاباتها إلى شركات البترول الأمريكية، حيث يكشف «بيركنز» أن هذا الهدف كان السبب الرئيس في التركيز على الإكوادور وإغراقها بالديون، نظرا لكون مخزون غابات الأمازون من النفط يحتوي على احتياطي منافس لنفط الشرق الأوسط، وبالتأكيد لم يكن هدف أمريكا إغراقنا في الديون، بل كانت تسعى إلى إعادة أكبر نسبة من الدولارات المدفوعة في البترول إليها مرة أخرى.

إن رفع مستوى المعيشة لن يكون إلا من خلال تبني استراتيجية لتشجيع المشاريع الصناعية الصغيرة والمتوسطة، فالعمل على توفير الوظائف للمواطنين لن يحل المشكلة، لأنه يحدد دخل الفرد ولا يؤدي إلى تنمية حقيقية، خاصة أن معظم هذه الوظائف لا تعمل على زيادة الإنتاج وإنما هي عبارة عن بطالة مقنعة، ولعل تشجيع المواطنين على إنشاء مشاريع صغيرة ومتوسطة من شأنه أن يؤدي إلى تنمية صناعية في وقت قصير، خاصة أن هذه المشاريع لا تحتاج إلى رأس مال كبير أو تكنولوجيا معقدة، فنجاح الدول الآسيوية في تجربتها التنموية كان بسبب اعتماداها على المشاريع الصغيرة والمتوسطة لتحقيق معدلات عالية في النمو، فالصين استطاعت أن تحقق أعلى معدل في التنمية في عام 1993 بنسبة 13% بفضل المشاريع الصغيرة التي تمثل 60% من حجم الاقتصاد الصيني، ويعمل فيها 75% من القوى العاملة.

ولك أن تعلم أن النهضة اليابانية - اليابان الصناعية كانت معتمدة بالدرجة الأولى على المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ففي عام 1999 أنشأت اليابان الهيئة اليابانية للمشاريع الصغيرة والمتوسطة بهدف توفير كافة المساعدات لتلك المشاريع، واليوم أصبحت تلك المشاريع تمثل 99.7% من عدد المشاريع في اليابان ويعمل بها حوالي 40 مليون عامل بنسبة 82% من إجمالي القوى العاملة، هذا بالإضافة إلى مساهمتها بنسبة 80% من إجمالي الناتج المحلي.

ونجحت تلك المشاريع في تحويل كوريا الجنوبية من دولة تعاني من التخلف إلى واحدة من الدول الاقتصادية الكبرى، فمنذ السبعينات ركزت الحكومة الكورية على الصناعات الثقيلة والكيماوية بدلا من الصناعات الخفيفة، إلا أن الإهمال الذي شهدته الصناعات الخفيفة التي تعمل على تغذية الصناعات الكبرى تسبب في إصابة التنمية الاقتصادية في كوريا بالاختناق، ولذلك بدأت الحكومة في تشجيع المشاريع الصغيرة وتوفير العديد من الحوافز لها، والآن أصبح عدد المشاريع الصغيرة يصل إلى أكثر من 3 ملايين منشأة بنسبة 99.8% من المجموع الكلي للمشاريع، كما أنها توظف نحو 10.48 ملايين عامل بنسبة 87% من مجموع القوى العاملة، هذا بالإضافة إلى تمثيلها 99% من إجمالي مشاريع الصناعة التحويلية بنحو 52.8% من إجمالي القيمة المتولدة في هذا القطاع.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل نعاني من إفقار ممنهج نتيجة السياسات الغربية التي تريد استمرار هيمنتها على المنطقة، أم أننا نحصد نتائج تأخرنا عن اللحاق بركب التقدم وتمسكنا بالحلول التقليدية للتنمية، وإذا استمر الحال على ما هو عليه، فإننا نصنع الفقر بأنفسنا، وقد يأتي وقت لا يمكن فيه استدراك ما جرى، وفي كل الأحوال فإن التجارب العالمية تؤكد أن الوقت ما زال متاحا للهروب من مصيدة الفقر والنهوض وتحقيق المعجزات بأسس محلية وطنية دون تدخل خارجي.

الأكثر قراءة

جميلة عادل فته

رجال الأمن.. رجال