محمد أحمد بابا

سيدة المقابر باحة البقيع

الاحد - 19 مارس 2017

Sun - 19 Mar 2017

لم أجد عذرا أحمل عليه أحكاما جاءت في كتاب للشيخ الدكتور عبدالمحسن القاسم إمام المسجد النبوي الشريف، رغم حرصي الشديد على احترام الرأي الآخر مهما كان اختلافي معه.



لكن فضيلته عنون للكتاب بالمدينة المنورة، فضائلها، المسجد النبوي، الحجرة النبوية، ومع ذلك وجدته عبر عن رأي واحد نهج إليه بميزان القطع واليقين لمن يقرأ له، وقد سطر في غلاف الكتاب صفته إماما للحرم النبوي الشريف، ليجد القارئ الزائر ذلك من لزوميات التصديق دونما وجهة نظر أخرى.



ولعل بعض فصول الكتاب التي نحت منحى تعبير الوصاية نبأت القارئ بما لم يسمع منذ زمن عن مقبرة شهداء أحد أو عن سيدة مقابر الأرض باحة البقيع الزاكية.



حينها رجعت لنفسي - وأنا مشرف الآن على الخمسين من العمر - لأتذكر بأنني أعرف من الرجال والنساء (رحمهم الله) من لهم مع (البقيع) علاقة:

- أحدهم بكى وهو يصلي على صديق له سيدفن في البقيع لا لفقده ولكن غيرة وغبطة أن سبقه لهذا الشرف وخوفا أن يحرم منه.

- أحدهم كان من حراس البقيع كان دوما يسأل الناس الزائرين أن يدعوا له بأن يحظى بقبر فيه.

- أحدهم وهو في السبعين من عمره طلب منه أن يشهد في موضوع حكومي لآخر بتسجيل رقم إقامته فقال له معتذرا: إقامتي (يقصد رخصة الإقامة) ضعيفة جدا آمل منها أن توصلني للبقيع.

- أحدهم كان يسكن شرق المسجد النبوي في رباط للفقراء أمام البقيع فسأله أقاربه أن يسكن معهم في غربها ليهتموا بأمره، قال: أنا هنا لأخفف على الناس حملي إلى البقيع.

- أحدهم دوما بعد صلاة العشاء في الحرم النبوي يقف عند خروجه متجها للقبلة يدعو لأهل البقيع حتى يبتسم ثم ينصرف.

- إحداهن كانت بين الحين والآخر رغم كبر سنها تزور البقيع صباحا وتتقصد زيارة أحد حراس البقيع أو مسؤوليه وتسأله في جدية (إن شاء الله فيه مكان لي؟) تريد الاطمئنان بأن لا يحرمها الزحام من قبر لها في البقيع.

- إحداهن لما اشتد بها المرض في مستشفى الملك فهد العام بالمدينة المنورة وهو خارج حدود الحرم ألزمت ذويها بإدخالها لحدود المدينة المنورة لا تريد أن تأتي للبقيع وقد ماتت خارج حدود مدينته.

- أحدهم كلما قابل شخصا وودعه قال له: ادع الله لي الموت على الإيمان والدفن في البقيع.

- أحدهم وكان شخصية بارزة كثير الأسفار ذا عمل دبلوماسي قال له صديق له هلا تركت هذا التجوال واتجهت للآخرة وسكنت في بيت أبيك بالمدينة؟ قال له: والله العظيم - والبخيل من لا يضمن على الله - لن أترك من الدنيا ذلك القدر الذي أمرني ربي فيه ولسوف تجدني بمشيئة ربي مستلقيا بجانبك وبجانب أبي في البقيع فلا تقلق علي.



وليست هذه الأخبار بحجة أبدا علميا على وجهة نظري التي أخالف فيها ما جاء في كتاب فضيلة الدكتور، حيث يرى بأن لا فضل في الدفن بالبقيع، لكن نفي الأفضلية عما هو موجود في المدينة الفضلى في هذا الزمن بالذات أجده في اعتقادي مجانبا للحكمة وفصل الخطاب.



ثم حسبي - والشيخ أصولي التعليم فقيه قضاء - أن المدينة المنورة فاضلة بالإجماع كلها، ولا يعقل أن يكون جزء من الفاضل المجمل ليس له أفضلية عن مثيله في غيره.



لأسأل أخيرا:

ما حكايتك أيها البقيع أخذت بشغاف قلوب هؤلاء حتى صرت غاية أمنياتهم فدفنوا فيك؟

ثم ما مناسبة القول بأن الدفن فيك أيها البقيع لا فضل له، في وقت اعترف فيه غالب المختصين بتقصير شديد في آثار مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم وطفقوا يسابقون الزمن لتدارك المتبقي إكراما لهذا النبي عليه الصلاة والسلام وإشعارا لمن يحبه أن من حبه حب جواره ولو كان مدفنا في البقيع لا يبعد عن البقعة المباركة كثيرا؟