شاهر النهاري

حضاراتنا القديمة.. ومدن زيفنا الزجاجي

الثلاثاء - 14 مارس 2017

Tue - 14 Mar 2017

في مدينة مثل (روما)، تجد الحكومة والبرلمان، ومنظمة اليونسكو، يتفقون قبل أي عملية حفر مهما صغرت، أو عند إنشاء طريق أو مبنى جديد، لمعرفتهم بوجود كنوز من الآثار القديمة المطمورة، والتي يفتخر بها كل إيطالي، وكل مرتبط بالحضارة الرومانية، وكل مؤسسة علمية، وكل عالم آثار يعرف أن الحقائق القديمة لا تتكشف أسرارها دفعة واحدة، ويظل الكثير مختبئا فيها، يرتجى فك أسراره بأيدي الأجيال القادمة، وبإمكانيات تتطور، ليستمر معين تراث وحضارة للإنسانية لا ينضب.



وتدور في أفقنا العربي هذه الأيام حوارات نزق عربي ابتلينا به، ففريق يجزم بجدوى بعض الهدم من أجل البناء، وآخر ينفيها، لنثبت للعالم استمرار تناقضنا العجيب، الذي يمنعنا من تمييز طرق المعرفة المثرية للأجيال القادمة.



فهل زوال وتدمير مدن العراق بكامل حضاراتها الأكادية والأشورية، والسومرية، والإسلامية، ومسح مدن سوريا، وطن بدايات حضارة الإنسان منذ العصر الحجري ومرورا بالكنعانية، والفينيقية، والآرامية، والإسلامية، وآثارها النادرة وثقافاتها البشرية أمر هين، ولا يدعو للحسرة والقهر.



إنه عار على كل مثقف عربي حينما يصمت عما حصل لحضاراتنا من دمار وزوال خلال الثلاثة عقود الماضية.



هنالك عمليات محو وإخفاء منظم، وتزوير للتاريخ، تقوم به جهات مغرضة، وللأسف أن بعض المشاركين فيها منا لا يعون الحقيقة، فيبررونها بدواعي النهضة والبناء، أو الثورات، والحروب، والإرهاب، والتشدد الديني، ليستمر تحطيم الآثار، ومحوها.



إنها ثقافة خبث منهجي، تسعى إلى مسح كل رسم يدل على قيمة أصيلة، مع التغني ببناء الأبراج الزجاجية مكانها، تلك التي لا فرق بينها وبين أبراج مدن الغواية والخطيئة الحديثة.



وكم هو مريع ما يحدث لعموم شرقنا الأوسط، وحضاراته، بالهدم المتعمد المنظم، مقابل نهضة زجاجية، لا يمكن اعتبارها حضارة، فلا يتعانق فيها القديم مع الحديث.



آثار الحضارة المصرية الفرعونية كمثال ما زالت حتى يومنا القريب تكتشف يوميا، وستظل تبرز وتدهش في مناطق إعجاز تاريخي وعلمي باكتشاف خباياها من كنوز معرفة قبل أن تعتبر كنوز ذهب آنية.



ويا للحسرة، فإن بعض مؤسسات وأفراد وجماعات شعوبنا تساعد على إزالتها وتفكيكها، وتهريبها، وبيعها على متاحف العالم، لتزيد من خيباتنا وانكسارنا كلما مررنا بمتحف عالمي وأدركنا كم يقدرونها ويجلون محتواها، وكم في مدننا الزجاجية من لا يكترث ببيعها.



إنها قضية جذرية، يجب أن تتوقف أمامها الحكومات العربية المريضة بسعار الهدم بكل أنواعه، إن كانت حقا تبحث عما يفيد هذه الأوطان، وأن نتحرك كمثقفين لحمايتها، وأن نفضح خيوط المؤامرة، ونشرح للعالم بأننا ندرك خطورة اكتساح وجه الأرض، التي سكنتها حضارات سبقتنا، فكيف ننكر تاريخنا وتاريخ أوطاننا، ونجحد تراثا كان أولى بنا أن نعتني به، ونجله ونقدمه على القصور الزجاجية، التي لا ذاكرة لها.



وما يزيدنا حرقة حول ذلك، أن يعيب المثقف شعور المثقف الآخر بحسرته على الماضي، بمنطق مريع، وربما يكون هذا جزءا من مشروع مسح التاريخ من الوجود، والذاكرة معا.



أنا سأبكي، وسأظل أبكي على أي حجر يزال من مدننا العربية، ومن تراث وطني، ومن قريتي، مهما شعر البعض بأنها حرام وأصنام، أو أنها كانت تقف حجر عثرة أمام برج زجاجي أو جسر جديد.



[email protected]