عالج المرض لا أعراضه

الجمعة - 24 فبراير 2017

Fri - 24 Feb 2017

من التقاليد التي يتبعها كثير من الجامعات أن تدعو الأستاذ الجامعي الذي يترك التعليم الجامعي بسبب التقاعد أو يعجز عن التدريس بسبب المرض أو غيره لإلقاء محاضرة أخيرة يحضرها طلابه وزملاؤه وأصدقاؤه ومن عمل معه خلال فترة عمله في الجامعة.

المحاضرة الأخيرة للأستاذ الجامعي أشبه ما تكون بحفل وداع أو مهرجان اعتزال كالذي يقام للاعبي كرة القدم، يقدم فيها المحاضر خلاصة خبراته وتجاربه في الحياة.

«راندي باوش» الأستاذ الجامعي في علوم الحاسب بجامعة كارنيجي ميلون في مدينة بيتسبرج بولاية بينسيلفينيا بالولايات المتحدة الأمريكية تعرض في بداية عام 2007 لوعكة صحية شخصها الأطباء بإصابته بمرض سرطان البنكرياس، وبعد عدة عمليات خضع لها أخبره الأطباء بعدم إمكانية الاستمرار في علاجه، وأن أيامه في الحياة باتت معدودة، وتوقع الأطباء أن فترة حياته المتبقية ستكون بين ثلاثة إلى ستة أشهر، ونظرا لحالته الصحية التي تزداد ترديا مع الوقت وقرب وفاته فقد طلبت منه إدارة الجامعة تقديم محاضرة أخيرة لطلابه وأصدقائه وزملائه في الجامعة ولمن عمل معه!

استجاب «راندي» لدعوة إدارة الجامعة واستغرق إعداده للمحاضرة عدة أشهر، وفي سبتمبر 2007 ألقى محاضرته الأخيرة في جامعة كارنيجي ميلون واختار لها عنوان «أن تحقق أحلام طفولتك»، التي صنفت على أنها من أكثر المحاضرات المؤثرة والملهمة، أصدرت بعدها دار نشر هايبيرن كتابا يتضمن المحاضرة التي ألقاها وأسمته «المحاضرة الأخيرة»، حصل الكتاب حينها على المركز الأول في قائمة نيويورك تايمز لأكثر الكتب مبيعا، وقد توفي بعد إلقائه المحاضرة الأخيرة بعدة أشهر، وذلك في يوليو 2008 وهو لم يتجاوز السابعة والأربعين من عمره!

الكثير من الحضور توقعوا أن تكون المحاضرة عن الموت ومليئة بالبكاء والدموع وندب الحظ، لأن المحاضر سيفارق الحياة بعد أشهر قليلة وهو في ريعان شبابه، لكنهم فوجئوا أنه تحدث عن الحياة لا عن الموت بروح مليئة بالمرح والتفاؤل والحماس، تحدث عن أحلام طفولته وكيف أنه عمل جاهدا على تحقيقها، وعن الراحة النفسية التي يجدها الإنسان عند مساعدة الآخرين على تحقيق أحلامهم، وعن الدروس التي تعلمها من الكثير من الأشخاص الذين قابلوه أو عمل معهم طوال حياته.

تحدث أيضا عن التكيف مع الظروف، لأنه أهم من التوقف عن العمل وندب الحظ، وأكد ذلك بقوله «نحن لا نستطيع تغيير أوراق اللعب التي تعطى لنا في هذه الحياة، ولكننا نستطيع تحديد كيفية التعامل معها»!

تساءل أيضا عن طبيعة البشر «فعندما تفعل شيئا مبدعا فلا بد أن تصيبك سهام في ظهرك، لكن تجاهلها وامض في حياتك وحقق المزيد من الإنجاز والإبداع»، فطبيعة البشر تتفاوت رأيا وفكرا ومنطقا، ولذلك ينبغي علينا أن نتقبل من حولنا بكل ما فيهم من إيجابيات وسلبيات، فأن تكون ناجحا فهذا يعني أنك تحت المجهر لفئتين من الناس، محبيك ومنتقديك، فالفئة الأولى احترمها وحافظ عليها، أما الفئة الأخرى فتجاهلها ولا تلتفت إليها، وافعل كما فعل «راندي» عندما أحضر قميصا به سهام في ظهره وخلعه أمام الحضور، دلالة على قدرته على رمي الانتقاد السلبي الموجه له وراء ظهره والمضي قدما في حياته وإنجازاته!

وفي جانب آخر من المحاضرة يؤكد على أهمية أن تعالج المرض لا أعراضه، ويبرهن ذلك بقصة فتاة قابلها كانت تعاني من الديون، ومن أجل تخفيف الضيق والأرق اللذين تعانيهما كانت تقضي ساعات من يومها في تمارين التأمل واليوجا، لكنه اقترح عليها أن تستثمر وقت فراغها في عمل إضافي بدلا من تمارين التأمل واليوجا، وسوف تسدد ديونها، فما كانت تعانيه من ضيق وأرق لا يعدو إلا أن يكون أعراضا للمرض الذي يتمثل في الديون، وبالفعل أخذت الفتاة بنصيحته واستطاعت خلال فترة وجيزة أن تسدد ديونها!

أخيرا.. محاضرة راندي باوش الأخيرة جديرة بأن تشاهدها يا صديقي، فإنها حتما ستغير طريقة نظرتك للحياة، وتعاملك مع عائلتك وأصدقائك وزملائك في العمل.