محمد أحمد بابا

وصلتنا تقارير

الثلاثاء - 21 فبراير 2017

Tue - 21 Feb 2017

بعبارة مملة كان مدرسونا في الابتدائية يطالبوننا في مادة التعبير أن نقوم بوصف رحلة في الإجازة حتى ولو لم نكن تحركنا خارج منازلنا، وكذلك هو الحال حينما تتبنى المدرسة في النادر رحلة مدرسية لبعض الطلاب الذين كانوا ينتقونهم لتفوقهم أو أدبهم سيأتي الأمر في الحصة القادمة للجميع بوصف تلك الرحلة النادرة.



ولعل السؤال الذي دار في ذهني حينها لماذا نطالب بكتابة موضوع عن شيء لم نشارك فيه، وكانت تأتي الإجابة من المعلم الضليع في المداهنة والمجاملة أن الهدف هو تعويد التلميذ على أسلوب أدبي جديد هو في أمس الحاجة له مستقبلا حين يريد أن يصف الواقع بغير ما هو واقع، وتلك مصيبة كنت أنزعج منها لتكون الغاية أن نتعلم الكذب والتلوين لننجح.



العالم اليوم يهتم بالتقارير التي يعتبرها هي أول الدلائل الموصلة للحقيقة، وكثيرا ما نسمع من متحدثين في معرض كلامهم عن قضية معينة عبارة: (وصلتنا تقارير)، وهم بذلك يضعون قاعدة مطلوبة للانطلاق في التحليل أو الوصف أو قراءة أحداث ومعطيات حتى تخضع للدراسة والبحث.



ولأننا اعتدنا عدم المنطقية في الوصف لموقف معين لم نشاهده ولم نحضر فصوله ليحتاج الأمر لأحلام يقظة حتى يصبح أدبا أو ثقافة، وجدنا أنفسنا وأقلامنا بعد تلك العقود من الزمن لا تستطيع وصف الحوادث والقضايا التي نشترك فيها مع غيرنا أو نراها بأم أعيننا، وكأن الرؤية أو العيش مع نفس المشكلة لا يضيف للتقرير الذي نكتبه جديدا.



أغلب التقارير التي تسمى بهذا الاسم - استهلاكيا فقط - لا تمت للمسمى المعني بصلة أو توافق، بل هي في واد وما تحكيه مجريات الحقيقة والمشاهدة في واد آخر، ليوحي لنا هذا الحال بأن كل الواضحات أو المفاهيم بحاجة لتفسير حتى ولو كانت مكونة من نفس حروف الهجاء التي تدربنا عليها صغارا وأتعبتنا ونحن كبار نصول ونجول ونراوغ بين معانيها ومراميها.



حتى في أسلوب السرد العادي العفوي الذي يمتع به من يكتب تقارير في غير مجتمعاتنا العربية لا نُحسن نحن الموهومون بأن الكتابة مهنتنا والتقارير لعبتنا الحد الأدنى من الموضوعية والصدق في ذلك، ولا يوجد إلا النزر القليل من الجهات المستقلة التي تقدم تقارير باللغة العربية ولقضايا عربية بقوالب غربية وأجنبية وكأن صحوننا النحاسية لا تصلح لموائد العصر المرفهة.



جل من يطلب منه كتابة تقرير عن حالة يظل محبوسا داخل إطار الطالب للتقرير، وإظهار الجوانب المضيئة غصبا، وكأن الأمر معد سلفا ليكون ناجحا ولو بتحميل الكلمات والجمل والتعبيرات ما لا تحتمل فرضا للقوة حتى في المعنى.



وغياب التقارير الموجزة التي أخذت على عاتقها نقل الصورة بعيدا عن الزيادة أو النقص متخذة من الحياد وسيلة للخروج من أسر الآفاق الضيقة وضع الفكر العربي في مأزق لا يحسد عليه، ونأى بكل الاقتراحات والبرامج التي تطرح يوميا على الساحات الإدارية أو الحقوقية عن ملامسة الحاجيات وعين المشكلة، لتهتم فقط بكميات من الورق يختزل تاريخ الإنسان في جودة تغليف تقارير كتبت عنه دون أن يكون في داخلها سطر واحد هو ذلك الإنسان.



ليتنا ـ ولو بالصدفة ـ نعود لكتب التاريخ العربي القديم التي اعتنت بسرد لحوادث التاريخ بدقة ومهنية عالية في كتابة التقارير مقارنة بالعصر الحديث، رغم ما فيها من أمور معرضة للتدليس والتزوير والكذب، لكنه كذب ينطلي على البعض لحسن التصرف فيه واتفاقه مع نسق التقارير التي تقنع الناس وهم في حالة من الحاجة لها.



أما اليوم فالتقرير العربي من اسمه يدفعك بعيدا عن مجرد التفكير في أنه مقنع أو لا، فبدايته تضليل ووسطه تطبيل ونهايته تهويل.

هم يعبرون عن قراءاتهم واطلاعهم على القضايا بقولهم (وصلتنا تقارير) لاقتناعهم بأن الكلام عن أي أمر فرع عن تصوره كما يقول أهل المنطق والفلسفة، أما نحن فنقول (كتبنا تقارير) لأن الهدف المنشود في أروقة ما نفكر فيه هو إخفاء العيب والنقص، وتحوير الشكوى من المرض نفسه واستفحاله ليركز التقرير على عدم التزام المريض بمواعيد الدواء والمراجعة الدورية فأضر نفسه بنفسه كما هي العادة.



[email protected]