سليمان الضحيان

خطابنا الفقهي وغلبة الظاهرية

الاثنين - 20 فبراير 2017

Mon - 20 Feb 2017

منذ عقدين من السنوات تقريبا، وفي أوج صعود الصحوة في مجتمعنا قدم إلينا في مدينتنا شباب ملتزمون دينيا من منطقة أخرى للدراسة في فرع جامعة الإمام في القصيم، والالتحاق بحلقات العلم لدى مشايخ المنطقة، ومما لفت نظرنا إليهم أنهم يتركون أزرار ثيابهم محلولة - وهو مما يعد عيبا اجتماعيا لدينا - وهذا ما أثار استغرابنا، وبعد السؤال اكتشفنا أنهم قرؤوا حديثا صححه الألباني جاء فيه: عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من مزينة، فبايعناه، وإن قميصه لمطلق الأزرار»، وبناء على أنه صح لديهم هذا الحديث، فقد تحول في نظرهم إلى سنة يجب الاقتداء بها دون النظر إلى ماهية الفعل الذي قام به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهل هو من الأمور الدينية التبليغية، أم من مقتضيات العادة آنذاك؟



هذه الحالة لا تمثل تعامل الخطاب الفقهي لدينا مع النص تمام التمثيل، لكنها تشير إلى منهجية التعامل الظاهري مع النص الشائعة لدينا، فمع صعود الصحوة لدينا ضعف التوجه المذهبي في التعامل مع النص الديني، وصعد منهج أهل الحديث المعاصرين، الذي صاحبه حركة كبيرة لتصحيح الأحاديث وتضعيفها، كان نجمها الشيخ الألباني، ومنهج أهل الحديث المعاصرين هو منهج يتعامل مع النص الديني تعاملا ظاهريا، فيكفي أن يصح الحديث؛ ليكون تطبيقه وفق فهمه الظاهري الحرفي واجبا.



وحينما أقول (ظاهري) لا أعني أنه يتبع منهج المذهب الظاهري كما عرف في تاريخ الفقه الإسلامي، وكما أصله داود الظاهري وابن حزم، فمع أن المذهب الظاهري اعتمد على الأخذ بظواهر دلالات النصوص (الكتاب والسنة) والإجماع القطعي فقط، إلا أنه جعل ما سوى تلك الدلالات على البراءة الأصلية التي ليس فيها تكليف معين من النص، وفي هذا توسيع على الناس، وأما ظاهرية الخطاب الفقهي المعاصر فمع وقوفها عند ظواهر النصوص، وعدم الاهتمام بالمقاصد، فقد توسعت في القياس على ظاهر النص، وبقاعدة سد الذرائع مما وسع من مساحة التكليف الديني، وأحسب أنه آن الأوان لإعادة النظر في تلك المنهجية في التعامل مع النص الديني، فمنهجية التعامل جهد بشري، أوكل الله معرفتها للعلماء كما قال تعالى: «لعلمه الذين يستنبطونه منه»، فنص على (الاستنباط)، وترك منهجية الاستنباط لاجتهاد البشر.



وإذا كان التكليف الديني في العبادات المحضة من صلاة وصوم وحج وما سواها، والأخلاق الكلية من عدل وإحسان وصدق وما سواها، والمحرمات المجمع على حرمتها كالكبائر مثلا - وهي ما يشكل صلب الدين - من الثابت الديني الذي لا يتغير بتغير الزمان والمكان، فثمة مساحات واسعة من التعاملات في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ليست من الثابت دينيا، فهي خاضعة لحركة الاجتماع البشري.



وفي تراثنا الفقهي الذي سطره الأسلاف منهجيات يمكن الانطلاق منها لبناء منهجية جديدة للتعامل مع النص الديني في هذه الجوانب، فالفقهاء يميزون بين ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من تبليغ فيكون تشريعا، وما صدر عنه جبلة وطبعا وعادة كلبس العمامة، وحب أكل العسل، وكره أكل الضب، فهذا ليس تشريعا، وزاد الفقيه القرافي (ت 684هـ) على هذا بتقسم ما صدر عن النبي إلى مقامات: (مقام تصرفه بالتبليغ)، و(مقام تصرفه بالإمامة)، و(مقام تصرفه بالقضاء)، و(مقام تصرفه بالفتوى)، فمقام تصرفه بالإمامة خاضع للسياسة الشرعية التي يكون فيها مراعاة للمصالح والمفاسد في تطبيق الأوامر والنواهي التي جاءت بها النصوص، وعمل عمر بن الخطاب يشهد لهذا، فقد كان الطلاق بالثلاث بكلمة واحدة لا يقع إلا طلقة واحدة على عهد الرسول وأبي بكر، وفي عهد عمر أجراها ثلاثا تبين المرأة بها بينونة كبرى، وقد فعل ذلك لما رأى الناس يكثرون منه، فأراد معاقبتهم لردعهم، ومنع بيع أمهات الأولاد، وكان على عهد الرسول وأبي بكر جائزا، وزاد في حد الخمر، وكل هذه التصرفات نابعة من فهم لمقاصد النص الشرعي وحركة الاجتماع البشري، وليس وقوفا عند ظاهره.



يقول ابن القيم عن تصرفات عمر: «هذا وأمثاله سياسة جزئية بحسب المصلحة، تختلف باختلاف الأزمنة، فظنها من ظنها شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة». هذه التعامل مع النص الديني من عمر يبين عن منهج لم يقدر له أن يستمر في تراثنا الديني، وأحسب أن منهجيته في التعامل مع النص الديني تحتاج لدراسة معمقة بعيدا عن محاولات إدخال تلك المنهجية قسرا تحت منهجيات أصولية نشأت بعده كما صنع، ويصنع المتمذهبون من الأصوليين؛ إذ لو كان عمر بعبقريته ومنهجه لدينا اليوم لتغير الفقه جذريا.



[email protected]