موت الكاتب السعودي

الأربعاء - 15 فبراير 2017

Wed - 15 Feb 2017

الذي أحدثته الثورة الهائلة في تقنيات الاتصال أنها أفرزت متلقيا «اختزاليا» لا يرغب بتلقي الكتابات المطولة ولا يجيد القراءات المعمقة، يريد المباشرة والاختصار وإن كان ما يتعاطاه من هذا النوع من المعرفة يتسم بالهشاشة والسطحية.



وتندرج الكتابة المنهجية ذات الاتجاه النقدي في الفكر والسياسة ضمن سلسلة (اللامرغوب فيه)، سواء من المنطلق الذي ذكرناه، أو من منطلق أيديولوجي يخص المتلقي ذاته، غير أن لدي قناعة -تشبه الأمل- بأن المقالة المعمقة مهما ضعفت، ومهما قل جمهورها، لا تموت.



فالحاجة إليها ملحة في طرح الرأي وتداوله، ولا سيما في الساحات الثقافية التي عادة ما يكون مرتادوها من النخبة، فلكل آلة عازف ولكل معزوفة جمهور، وإن كانوا نخبة النخبة لا يتعدى عددهم أصابع اليدين.



وتماهيا مع التطور الحتمي لوسائل التواصل بين البشر، ولج بعض الكتاب عالم «وسائل التواصل الاجتماعي» لإيصال آرائهم وأفكارهم عبرها، لكن بعضهم صدموا الجماهير لأنهم اتصفوا بالجدية والرصانة، فوصفهم هذا النوع من الجمهور بـ «الجمود»، أو العكس تماما، حين تصرفوا على سجاياهم بشكل يختلف عما هم عليه خارج دفتي الكتاب أو الزاوية الصحفية؛ أحدث ذلك صدمة لجمهورهم الذي قد يصفهم بـ»التفاهة» سرا وعلنا.



وبين هذا وذاك، هنالك صنف ثالث هو الكاتب «السفسطائي» إن جاز التعبير الذي يرغب بالجماهيرية عن طريق الإثارة حتى لو وصل الأمر إلى مستوى مخجل من الشتائم والسباب، له وعليه.



ولا بد من القول إن الصورة الذهنية التي يرسمها خيال المتلقي عن الكاتب حين يقرأ حروفه شر لا بد منه، ولذلك كثير من الكتاب -وكاتب هذه السطور أحدهم- يكونون أحيانا خارج إطار المتوقع الجماهيري، وكأنهم نزلوا من كوكب آخر وهذا ثمن الكتابة الجادة، إلا أن هذا الأمر ليس هو المهم؛ المهم هو أن الجمهور أحيانا لا يتقبل الصورة الحقيقية للكاتب، وإنما يرغب باستمرار الصورة الذهنية التي رسمها خياله.



إن فرضية موت الكاتب السعودي -التي نطرحها هنا- تنطلق مما ذكر آنفا، وتزداد تعقيدا حين يكون الكاتب جزءا من أزمة ثقافته! فالكتابة وإن كانت عشق الكاتب وشغفه، إلا أنها لا تطعمه، ولذا يجب ألا ينشغل بها عن عمله الأساسي -الذي لا علاقة له بالكتابة- والذي يكسب منه قوت يومه، لأن ما يقال إن أمة «اقرأ» لا تقرأ، صحيح.



الأمر الذي يجعل المؤلفين والكتاب في مأزق؛ إذ بالكاد يقرأ إنتاجهم الإبداعي والفكري، وليس ثمة احتمال أن يتفرغوا للكتابة كليا طالما أنهم لن يكسبوا منها بشكل منتظم، بل من المستحيل أن تصل أحلامهم إلى كوة ضيقة في عالم الثراء؛ لأنهم لن يمروا بالصدفة النادرة التي مر بها بعض الكتاب المحظوظين في العالم، ومنهم الكاتبة البريطانية (ج.ك. رولينغ) التي صارت ثرية حين وجدت أناسا يقرؤون!



الكثير من الكتاب السعوديين قدموا ما يستطيعون من جهد في مجالهم، ولم يساعد العمر والوقت بعضهم على الإنتاج فأصبحت مشاريعهم المشروعة مؤجلة، ففي اللحظة التي يفترض فيها أن يكون الكاتب على مكتبه الخاص -صباحا ومساء- متفرغا للكتابة والتأليف، تجعله مشاغل حياته الثانوية رهينة.

المقالة الصحفية كانت نافذة الكاتب والمثقف على العالم، فمنها عبر معظم المثقفين والمبدعين والفلاسفة، مثل هيجل، وماركس، وسارتر، وكامو، والعقاد، ومحفوظ، والحكيم، والوردي، وغيرهم الكثير.



أما اليوم فثمة نوافذ أخرى للتدوين، يرى فيها المتابعون التحولات والتطورات الثقافية والفكرية والاجتماعية التي يمر بها المجتمع السعودي، وضمنا لا يمكن تجاهل الدور الفردي الريادي للكتاب السعوديين بمختلف اهتماماتهم في تطور الثقافة المحلية.



إلا أننا لم نصل بعد إلى مرحلة «صناعة الثقافة» عبر العمل المؤسسي؛ ولهذا فإن فرضية (موت) الكاتب السعودي قائمة وستؤدي إلى موت الثقافة، إذا لم نسارع إلى صياغة إستراتيجية ثقافية، تساعد النخب الثقافية الجديدة على تحمل المسؤولية، من خلال سن قانون لتفرغ الكتاب لمشاريع الكتابة، بما يشبه التفرغ العلمي والإعارة وإجازة المشاركات الأدبية، ليسهموا في صنع الثقافة وإعادة إنتاجها وتطويرها.