هل الإسكان في الاتجاه الصحيح؟

الخميس - 09 فبراير 2017

Thu - 09 Feb 2017

يظن معظمنا أن المواطن الذي بنى منزله حظيظ بينما الحقيقة أنه بائس. فما إن ينتهي المسكين من بناء بيته منفقا دم قلبه لمشروع العمر حتى يفاجأ بجاره الملاصق وقد بدأ بالحفر مستهلا بناء منزله ومحولا أرضه لورشة عمل قد تمتد لسنوات من الإزعاج والغبار ناهيك عن المخاطر العديدة. أما جاره الملاصق من الجهة الأخرى فقد توقف في مرحلة العظم تاركا عمارته موئلا للجريمة والكلاب الضالة. وتكتمل المأساة عندما بدأ جاره الثالث بناء برج تجاري كاشفا كامل الفناء الأمامي لعمارة صاحبنا والذي يعتبر المتنفس الوحيد لعائلته، مما جعله مرغما يركب السواتر المعدنية ليحافظ على خصوصية فنائه، حاجبا أيضا الواجهة التي أنفق مئات الآلاف لجعلها جميلة للناظرين!

هذا هو للأسف مشوار بناء المنزل المعتاد لكل سعودي وفي النهاية يجد نفسه مرتهنا لقروض تأكل جزءا مؤثرا من دخله لسنوات طوال عجاف يجد نفسه خلالها ساكنا في حي هو بأكمله ورشة عمل حيث يتوالى بناء المنازل هنا وهناك في فترة تزيد عادة على ربع قرن، وهي المدة التي يكتمل فيها بناء كامل المنازل في الأحياء في المملكة.

قد يفاجأ القارئ إذا علم أن هذا السيناريو الذي ربما لم يعهد غيره لا تسمح به الدول المتحضرة ويخالف أبسط قواعد علم التخطيط العمراني وهو التخصص الذي يدرس في كثير من جامعات العالم، ومن ضمنها خمس جامعات سعودية حيث إن بناء المنازل في التجمعات الحضرية (المدن بأحجامها) ليس شأنا فرديا وإنما جماعي أي لا يقوم به الأفراد وإنما مؤسسات مؤهلة تبني مجمعات أو بلوكات (مجموعة مساكن).

وتتمحور مهمة وزارات الإسكان في تنظيم العمل وسن التشريعات واللوائح التنظيمية وإصدار التراخيص المبنية على دراسة السوق لضمان الإيفاء بالطلب على السكن والذي يتوجب أيضا أن يفي بكل المتطلبات الحياتية والبيئية لطالبي السكن. ومن أهداف وزارات الإسكان المحافظة على بقاء المطورين وجدوى الاستثمار بالنسبة لهم، حيث يحصلون على تسهيلات لوجستية مثل الأرض والإعفاءات الضريبية، وذلك لخفض سعر الوحدات السكنية والذي تتدخل الوزارة لإبقائه في حدود إمكانيات طالبي السكن.

قد لا يعرف كثير من السعوديين معنى كلمتي (البلدية والقروية) المقرونتين بإحدى أكبر الوزارات لديهم، وهم بالتالي لا يعرفون دلالاتهما، فالبلدية (Municipal) تعنى بالتجمعات الحضرية الكبيرة وهي المدن بأحجامها، حيث يكون السكن شأنا جماعيا بينما تعنى القروية (Rural) بالتجمعات القروية الصغيرة، حيث يملك السكان حرية أكبر في بناء منازلهم بشكل فردي.

بخلاف القرية، تنمو المدينة في البيئة المدنية المتحضرة بشكل منظم على شكل أحياء بكاملها أو بلوكات أو مجمعات تبنيها شركات مؤهلة لا أفراد. وتنقسم الفراغات داخل المدينة إلى نوعين، الأول يسمى (Brown field) وهي المناطق الخالية القريبة من مركز المدينة وتتوفر في العادة شبكات البنى التحتية في محيطها، أما النوع الثاني فيسمى (Green field) ويعني المناطق الخالية في نطاق المدينة لكنها بعيدة عن المركز ولا تتوفر بمحيطها عادة شبكات بنى تحتية كالصرف والمياه والكهرباء، وليس لمسمى النوعين أي علاقة بالألوان كما يتبادر للذهن، وإنما هي مصطلحات معروفة في علم التخطيط العمراني.

إن نهج الإسكان القائم لدينا والذي ترسخ لأكثر من خمسة عقود هو مسار خاطئ، حيث يمنح المواطن أرضا وتوكل له مهمة تصميم مسكنه وبنائه في الوقت الذي يختاره وحسب ظروفه المالية والاجتماعية، لقد خلق هذا النهج مدنا مريضة تكونها أحياء تتراص فيها مساكن ذات جودة رديئة بناها أفراد بقدرات فردية محدودة محاطة بألواح الهنجر بعد أن انتهكت خصوصيتها مسببة تشويها بصريا عاما لا يعد مهما أمام التشويه البيئي لمساكن بائسة لا تدخلها الشمس ولا الهواء.

وقد يدافع البعض بأن هذا النهج يعطي على الأقل الحرية لصاحب المنزل باختيار التصميم الذي يفي بمتطلباته واحتياجاته الخاصة، وهذا اعتقاد غير سليم لأن نظام البناء الجماعي يحقق هذا المطلب، حيث يحافظ على تنوع في المنتجات السكنية بما يفي بمتطلبات جميع شرائح المجتمع ليحصل الفرد على سكن مناسب في بيئة مكتملة الخدمات من بنى تحتية وخدمات تعليمية وترفيهية وصحية تربطها شبكة طرق ومشاة متكاملة وصولا إلى مواقف السيارات وأرقام البيوت وحتى حاويات النفايات وصناديق البريد، كما أن الأفنية والفراغات الداخلية ستتمتع بالخصوصية نظرا لأن البيئة المعمارية برمتها بنيت بوقت واحد.

وعلاوة على ذلك يوفر البناء الجماعي المال والوقت، فمن الثابت أن سعر المواد واليد العاملة للمتر ينقص كلما زادت الكمية، وفي الوقت نفسه يرفع مستوى الجودة، حيث أثبتت الدراسات أن العامل تتطور جودة أدائه لنفس النموذج كلما ازداد عدد النماذج التي ينفذها.

وكمثال على مدى نجاح البناء الجماعي ومدى فشل البناء الفردي داخل المدن يمكننا الإشارة إلى أحد أقدم مشاريع البناء الجماعي في المملكة، وهو مدينة الملك عبدالعزيز العسكرية بتبوك، والتي أنشئت قبل نحو أربعة عقود، وإذا ما قورنت بأحياء رافقت إنشاءها كحي الفيصلية مثلا نجد الفرق شاسعا من حيث الراحة في السكن والخدمات، فحي المدينة العسكرية ما زال مرغوبا مطلوبا للسكن بينما تحول حي الفيصلية بمساكنه القديمة المتهالكة إلى بيئة طاردة غير مفضلة للسكن. وهذا المثل الحي يقف شاهدا ليس في تبوك وحدها وإنما في كل مدن المملكة.

ورغم ذلك تجدر الإشارة إلى أن البناء الفردي ليس ممنوعا بالمرة داخل المدن وإنما متاح للراغبين في أحياء ومناطق محددة بشروط أهمها عدم بناء أكثر من دور واحد والالتزام بوحدة سكنية واحدة لكل أرض، وذلك لصيانة خصوصية الجيران وضمان الملاءة المالية لباني المنزل. فيما عدا ذلك لا يسمح للأفراد بالعبث بالبيئة المعمارية داخل المدن عن طريق البناء الفردي.

إن تجربة وزارة الإسكان غير الناجحة في السبعينات عندما أنشأت مجمعات سكنية لم يتقبل المواطنون امتلاكها أدت إلى انصراف الوزارة عن نهج البناء الجماعي، وأدى فيما بعد إلى إلغاء هذه الوزارة برمتها، ولم يكن الخطأ في المنهج وإنما في تصاميم الوحدات السكنية، حيث لم يراعي تصميم الشقق ولا المنازل متطلبات العائلة السعودية بل كانت لعائلة (أجنبية) بمدخل وحيد يفضي إلى صالة استقبال، علما أن مهمة وزارة الإسكان أساسا ليست بناء المساكن وإنما إدارة سوق الإسكان بشكل فعال، وهي بذلك تحقق أهدافها في توفير السكن الملائم بالسعر المناسب.

إن نظام بناء المدن والأحياء الحالي لدينا والمرتكز على توزيع الأراضي على ملاك ليبنوها هو من مخلفات نظام الإقطاع بالقرون الوسطى، ولم يعد يُعمل به وينبغي لنا أن نعمل جاهدين على الابتعاد عنها، ولا سيما ونحن نمر بمرحلة تحول وطني ستكون البيئة المعمارية إحدى أهم مرتكزاتها، ولم يعد مجديا لوزارة الإسكان سوى التدخل بقوة لتغيير المسار برمته نحو البناء الجماعي أو ستواجه الفشل مرة أخرى وبشكل أكبر.