سليمان الضحيان

خطابنا الديني والتصوف

الاثنين - 06 فبراير 2017

Mon - 06 Feb 2017

للخطاب الديني لدينا موقف حاد جدا من التصوف، فـ (التصوف) في المنظور السلفي المعاصر يجسد البدعة والخرافة واستقالة العقل، وهذه النظرة الحادة إلى التصوف رد فعل على انحدار التصوف في القرون الإسلامية المتأخرة بداية من القرن السابع الهجري إلى ممارسات وطقوس احتفالية حول قبور بعض من يعتقدون أنهم أولياء، والاعتقاد بأن للدين حقيقة وشريعة، وباطنا وظاهرا، وأن مشايخهم بلغوا منزلة الحقيقة التي ترفع معها التكاليف الشرعية، وادعاء الكرامات الأسطورية لمشايخهم كعلم الغيب، وتكليم الموتى، والطيران في الهواء، ومن قرأ طبقات الشعراني (ت 973هـ) (لواقح الأنوار في طبقات الأخيار)، و(عنوان الدراية) للغبريني (ت 706هـ) يقف على كم هائل من أخبار تلك الكرامات الأسطورية المزعومة، والسؤال: هل التصوف هو هذا الذي يعبر عنه مثل ذينك الكتابين، ونشاهده اليوم لدى بعض غلاة الصوفية من رقص حول القبور وادعاء الكرامات الأسطورية لمشايخهم؟



الحق أن فكر التصوف لم يستقر على وتيرة واحدة منذ تأسيسه شأنه شأن الأفكار؛ إذ إنها تتغير وتتطور تبعا لواقع الاجتماع البشري، فـ (التصوف) نشأ في أواخر القرن الأول؛ إذ إن أناسا من ذوي النفوس المرهفة ممن ينشدون الخلاص الأخروي، ويطمحون للصفاء اتخذوا الزهد والعزلة منهجا لهم، وما لبث هذا المنهج أن تحول إلى طريقة ومذهب في القرن الثاني الهجري، شأنه شأن بقية الأفكار في المجتمع الإسلامي آنذاك، حيث تحول الفقه إلى مذهبين، مذهب أهل الحديث، ومذهب أهل الرأي، وتحول الاعتقاد إلى مذاهب، مذهب أهل الحديث، ومذهب القدرية، ومذهب الإرجاء، ومثل ذلك التصوف، حيث أصبح له شيوخ وأنصار وتلاميذ، وأوقفت بعض البيوت على المتصوفة، وأول من فعل ذلك أحمد بن عطاء الهجيمي (ت 200هـ)، حيث أوقف دارا له بالبصرة، يجتمع فيها المريدون من الصوفية للتعبد والذكر، واستماع القصائد الزهدية المرققة التي تقال بالألحان الشجية، أو إلى قصائد ظاهرها الغزل، ومقصدها الشوق إلى الله ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ويسمون ذلك بـ (السماع)، ومنشدهم يسمونه (القوال)، وكما صنفت الكتب في المذاهب الفقهية والعقدية، صنف المتصوفة الكتب في أخبار الزهد والزهاد، وإصلاح القلوب، والعزلة، والكلام في خطرات النفوس والقلوب، والدعوة إلى الفقر، كـ (قوت القلوب) لأبي طالب المكي، و(حلية الأولياء) لأبي نعيم الأصفهاني، يقول ابن خلدون «أصل طريقتهم محاسبة النفس والكلام في هذه الأذواق ثم ترقوا إلى التأليف في هذا الفن فألفوا في الورع والمحاسبة كما فعل القشيري في (الرسالة) وذلك بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط».



وعبارات متقدميهم في وصف الصوفي تقطر بالعذوبة، يقول محمد بن إبراهيم البغدادي (ت 269هـ) «علامة الصوفي الصادق أن يفتقر بعد الغنى، ويذل بعد العز، ويخفى بعد الشهرة، وعلامة الصوفي الكاذب أن يستغني بعد الفقر، ويعز بعد الذل، ويشتهر بعد الخفاء»، وقال أحمد بن مسروق «التصوف: خلو الأسرار مما منه بد، وتعلقها بما لا بد منه».



وقد ظل التصوف في ذلك القرن والقرون اللاحقة يمثل طريقة مقبولة لمن ينشد الخلاص الأخروي مع رفقه صالحة يشاركونه الهم نفسه، لكنه في القرون اللاحقة ابتعد عن أن يكون طريقة للخلاص إلى منحى فلسفي ذي بنية فلسفية متكاملة، فالدين له حقيقة باطنة، وشريعة ظاهرة، والكون له أوتاد أربعة من الأولياء الصالحين، لهم تحكم بالكون، وفي كل بلد أبدال، وبعدهم طبقة النجباء، ثم النقباء، ونحا بعض المتصوفة إلى الاعتقاد بعقيدة الحلول كالحلاج، وعقيدة وحدة الوجود كابن عربي، وعلى المستوى السلوكي تحول إلى طقوس احتفالية حول قبور الأولياء كما استفتحنا بذكره المقال.



وأحسب أن التصوف كما في نشأته الأولى منهج مقبول لمن يبحث عن الخلاص الذاتي بصحبة رفقة صالحة تعتزل صخب الحياة وضجيجها، وتحلق في أجواء روحانية، تصفو بها النفس، وتتهذب بها الأخلاق، وتسمو بها الروح.



وأكثر ما ينكر على الصوفية في خطابنا الديني اليوم مجالس السماع، وقد أنكر بعض المحدثين في القرن الثاني على المتصوفة آنذاك مجالس السماع والذكر، وهذا أمر مفهوم في سياق الخلاف الفكري بين المذهبين، وقد كان للمحدثين موقف حاد جدا من كل من يختلف مع مذهبهم، فقد بدعوا أصحاب مذهب الرأي في الفقه كأبي حنيفة وأصحابه. وأحسب أن إنشاد الصوفية وسماعهم للقصائد الزهدية وقصائد مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، هو من جنس الأناشيد التي تسمى اليوم إسلامية، فهما في الحكم الشرعي سواء.