لا نهضة إلا بالصناعة

الجمعة - 03 فبراير 2017

Fri - 03 Feb 2017

نجحت المملكة في التحول بسرعة من دولة فقيرة إلى دولة غنية تملك مدخولا اقتصاديا مرتفعا، استطاعت بفضله أن توفر للمواطنين الخدمات والاحتياجات الأساسية كالتعليم والمرافق العامة. إلا أن هذا النجاح الاقتصادي لا يزال أحادي الجانب، لأنه يعتمد بالدرجة الأولى على تصدير النفط. وتكمن خطورة هذا التطور الذي يثير مخاوف المراقبين في أن هذا النجاح الاقتصادي، رغم هشاشة بنيته وضعف ديمومته، يؤدي إلى صرف النظر عن الإصلاحات الضرورية، وقامت الحكومة مؤخرا في محاولة منها لتنويع الاقتصاد بالعديد من السياسات الإصلاحية، إلا أن هذا الجهد لم يرتق لما هو مأمول.



لذلك فمن الضروري أن نقوم بدعم «الصناعة» بقوة، لأنها أكثر قدرة على التأقلم مع المتغيرات الاقتصادية المحلية والعالمية كالتي نشهدها اليوم مع تراجع أسعار النفط، خاصة أن الصناعة هي خيار اقتصادي لا بديل عنه لتنويع اقتصاد ما يقرب من 30 مليون نسمة، وتوفير فرص عمل للشباب، ولا شك أن الحديث عن تطوير الصناعة كان ضعيفا، خلال السنوات الأخيرة في ظل وفرة الإيرادات النفطية، لكنه الآن بدأ يأخذ زخما كبيرا.



إن دول جنوب شرق آسيا كانت خلال عهد قريب أكثر تخلفا وجهلا من العديد من الدول العربية، ولكنها استطاعت من خلال التخطيط والعمل الجاد أن تشق طريقها للحاق بدول العالم المتقدم، وحازت تجارب هذه الدول إعجاب العالم، خاصة الدول النامية التي نظرت إلى تجارب تلك الدول بشيء من الدهشة التي ربما امتزجت بالحسد على الانطلاقة الجبارة للصناعة فيها، واستحقت بجدارة أن تلقب بالنمور الآسيوية.



ومن المفارقات العجيبة أن دول الخليج تنظر وتراقب تجارب تلك الدول دون أن تبحث أو تدرس أسباب نجاح الصناعة في دول جنوب آسيا، ففي الوقت الذي تتسابق فيه الدول لدراسة تجارب دول جنوب آسيا للوقوف على أسباب نجاحها، نجد دول الخليج تتسابق في الاستيراد من هذه الدول، أما الدراسات والبحوث فلا مكان لها إلا الأدراج، وهذا أحد الجوانب السلبية الكامنة في سلوك دول الخليج.



ومن بين النمور الآسيوية كوريا الجنوبية التي أثبتت أن الإرادة والتخطيط وحدهما من يصنعان التغيير، فالكوريتان الجنوبية والشمالية لديهما الثقافة والتاريخ والأرض نفسها ويتنفسان الهواء نفسه، إلا أن كوريا الجنوبية استطاعت أن تحقق معجزة اقتصادية بمعنى الكلمة، بينما الشمالية ما زالت تعيش في التخلف، إن نموذج التصنيع في كوريا يعد تجربة غنية لبلد استغل كل إمكانياته للانطلاق، بعد أن كان للفقر فيه بصمات واضحة على جبين كل مواطن كوري، وانتقل هذا البلد في أقل من ثلاثة عقود من أمة فقيرة جائعة إلى مصاف الدول المتقدمة تصدر الالكترونيات والسيارات.



إن كوريا الجنوبية خضعت لاستعمار اليابان لمدة 26 عاما ومن ثم استعمار الولايات المتحدة الأمريكية لمدة أربع سنوات، وعلى الرغم من عمرها القصير نسبيا، وما مرت به من حروب واستعمار، إلا أنها استطاعت أن تبني اقتصادها بقوة، ولا يجب أن نغفل أن كوريا الجنوبية لا تمتلك ثروات معدنية أو نفطية، ولسد هذا العجز من الطاقة اعتمدت كوريا الجنوبية في بناء اقتصادها على المعرفة، عن طريق التركيز على الصناعات المتطورة التي لا تطلب مواد أولية كثيرة، ولكي تتجاوز نقص موارد الطاقة اعتمدت على الطاقة المتجددة.



وينبغي أن نعلم أن كوريا الجنوبية نجحت في تجربتها الاقتصادية بفضل قيام الحكومة بعقد شراكات مع القطاع الخاص، ووفرت له بعض الامتيازات الاقتصادية مثل الحماية من الإفلاس، وحوافز للتصنيع، وقروض ميسرة للإنتاج، في مقابل تحقيق تنمية اقتصادية صناعية، وهو ما أسهم في أن تتصدر كوريا الجنوبية معدلات التنمية على مستوى العالم منذ السبعينات إلى قرب نهاية القرن العشرين، ووصل دخل الفرد إلى 34.5 ألف دولار بعدما كان 80 دولارا في الستينات، ووصل الإنتاج المحلي لكوريا الجنوبية إلى 1.377 تريليون دولار وفقا لتقرير صادر من البنك الدولي في عام 2016، وبمقارنة ذلك بحجم الإنتاج المحلي لكوريا الشمالية نجده لا يصل إلى 3% من إنتاج كوريا الجنوبية وهو ما يثير الاندهاش والإعجاب.



ولا بد أن نشير في هذا الإطار إلى أن كوريا الجنوبية استفادت من الطفرة النفطية الخليجية أكثر من دول الخليج نفسها، فمع ارتفاع أسعار النفط في السبعينات غزت الشركات والعمالة الكورية الجنوبية دول الخليج العربي، واستغلت التدفقات النقدية في بناء الصناعة الكورية، ويبالغ بعض الاقتصاديين بالقول بأن ارتفاع أسعار النفط كان نعمة لكوريا الجنوبية، حيث استطاعت توظيف العائد النقدي الذي جنته من تنفيذ المشاريع في دول الخليج في بناء قاعدة صناعية لها.



ويذكر أن المملكة احتلت المركز الأول في الصادرات النفطية الخليجية إلى كوريا الجنوبية بنسبة 29% من إجمالي الصادرات البالغة نحو 28 مليار دولار، بينما بلغت قيمة واردتنا من كوريا الجنوبية من السلع والأجهزة الالكترونية 37.2 مليار دولار محتلين المرتبة الخامسة كأهم الشركاء الاستراتيجيين لكوريا الجنوبية في عام 2015 وفقا لإحصاءات العامة للإحصاء.



إن هذا الفارق الضخم في الأداء بين الاقتصادين الكوري والسعودي، يفرض علينا ونحن على أعتاب مرحلة جديدة من البناء الاقتصادي أن ندرس التجربة الكورية جيدا، ونستخلص منها رؤية استراتيجية للتنمية، خاصة أن نجاحنا في تنويع اقتصادنا من خلال الدخول لعصر الصناعة عبر إنتاج سلع ومنتجات ذات قيمة مضافة، سيوفر فرص عمل نوعية برواتب جيدة للمواطنين، إلى جانب أن الصناعة ستفتح لنا الباب للحاق بدول العالم المتقدم، مثلما حدث في تجربة كوريا الجنوبية.