سليمان الضحيان

العقلانية وتجارة الرقى وتفسير الأحلام

الاثنين - 30 يناير 2017

Mon - 30 Jan 2017

ما يميز الأديان عن الفلسفات البشرية أن جزءا من بنية الدين التي لا يتم الدين إلا بها الإيمان بأشياء غيبية غير مشاهدة، ويكون الإيمان بها من أصول الدين نفسه، فالإسلام مثلا يمثل الإيمان بالغيب ركنا من أركان الإيمان به، فالله - جل وعلا - والملائكة والجنة والنار والجن والشياطين، كل ذلك أمر غيبي غير مشاهد، ولا يتم إسلام المسلم من دون الاعتقاد الجازم بوجود ذلك كله، ولهذا كان الحديث عن إيمان المسلم بالغيب في أول سورة من سور القرآن، ففي أول سورة البقرة “ألم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب”. وكثيرون يعتقدون أن من العقلانية في فهم الدين رفض الأمور الغيبية وتأويلها إذا جاءت في نصوص دينية بما يجعلها من عالم الشهادة، ولهذا فهم يرفضون وجود العين والسحر وتأويل الرؤيا، ويرون أن هذه الأمور تنتمي إلى عالم الخرافة والوهم، فهل هذا من مقتضيات العقلانية في فهم الدين؟



الحق أن العقلانية في فهم الدين هي فهم الدين على أن له جانبين، جانب عالم الشهادة (أي: العالم المشاهد)، وجانب عالم الغيب، فعالم الشهادة خاضع للتفسير العقلي وفق فهم المسلم، وأما جانب عالم الغيب، فهو غير خاضع للتفسير العقلي، بل الأمر فيه تسليم مطلق، وهو ما يميز الأديان عن الفلسفات، كما استفتحت المقال بذلك، فعالم الغيب وفق النصوص الدينية مما اختص الله بعلمه، كما قال تعالى “عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول”، ومما يظهر قزامة العقل البشري أمام الغيب الذي لا يعلمه أن كل ما يعلمه الإنسان اليوم من اكتشافات هائلة هو ظاهر واحد من ظواهر الحياة الدنيا، كما في قوله تعالى، وهو يتحدث عن الناس “يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون”، أي أن علم الإنسان الهائل لا يعدو أن يكون في ظاهر واحد فقط، وهناك ظواهر كثيرة جدا في الحياة الدنيا لا يعلمها الإنسان، فضلا عن علم ما في الآخرة، ولهذا فليس من العقلانية في شيء إنكار وجود الجن، أو السحر، أو العين، أو صدق تفسير الرؤيا، فهذه عوالم غيبية من الجانب الغيبي الذي لا مدخل للتفكير العقلي فيها. وأحسب أن إثبات العلم الحديث وجود مظاهر كانت غيبا على البشرية من قبل كالفيروسات، والميكروبات، والشحنات الكهربائية، وموجات الصوت، وموجات الجاذبية يجعلنا نتواضع في تقدير إدراكنا العقلي لكل مظاهر الوجود.



ويجب الفصل بين الإيمان بوجود هذه الأشياء الغيبية واستغلالها تجاريا، فثمة تجارة هائلة اليوم تقوم على استغلال إيمان الناس بوجود العين والسحر وتفسير الرؤيا، وهي تجارة منظمة لها عيادات، وقنوات تلفزيونية، ومواقع في الانترنت، وأرقام هاتفية معلن فيها سعر الدقيقة، ونشأ في ظلالها تجارة طب شعبي من زيوت ومراهم ومساحيق حازت بركة قراءة القرآن عليها. ويقوم على ذلك كله تجار دين يحرصون على إشاعة الوهم بالإصابة بالعين والسحر، وأن معالجته تحتاج لوقت طويل، مما يدخل المريض بدوامة وهم قلما ينجو منه. وليس من الإسلام في شيء أن ينصب الإنسان نفسه راقيا تحج إليه جموع المرضى، فينفث عليهم بصورة جماعية، بل إن أمر الرقية الشرعية أن يفعلها المسلم لنفسه أو يفعلها لأبنائه أو صديقه، أو يطلبها ممن يرى صلاحه ممن لم ينصب نفسه راقيا، فالرقية في محصلتها من الدعاء الذي كلما كان سرا كان أرجى لاستجابة له.



وغالب ما يعتقده الناس اليوم مسا من السحر أو إصابة من عين هو في حقيقته مرض نفسي، وإن خيل للمريض أنه مس أو عين، فالإيحاء له تأثير عقلي هائل على الإنسان، والذين جربوا الرقية يقولون مثل ذلك كالراقي الشهير علي العمري، فقد ترك الرقية، ورأى أن أغلب ما يعانيه الناس أمراض نفسية، وسمعته يقول “جاءني شخص، وذكر أنه مصاب بتلبس من الجن، فسألته ما الدليل على ذلك؟ فقال إذا قرئت علي الفاتحة سبع مرات أصرع، ويتكلم الجني، يقول: فبدأت القراءة عليه، وأوهمته أني أقرأ الفاتحة، وبدأت أنفث عليه وأنا أتمتم بقول امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل، وأعقد بأصابع يدي، وهو يرى فلما أتممت قراءة البيت سبع مرات سقط يرفس برجليه، ويتكلم على أن المتكلم الجني الذي لابسه”.



[email protected]