فارس هاني التركي

وفاة الجنيه المصري

السبت - 21 يناير 2017

Sat - 21 Jan 2017

الاقتصاد المصري اقتصاد قوي ومتين منذ قديم الزمان، فمصر لديها موارد طبيعية غنية وموقع جغرافي سمح لها بالتبادل التجاري بين جيرانها، وجعلها محطة عبور رئيسة وهمزة وصل بين آسيا وأفريقيا وأوروبا.



قرابة 50% من دخل مصر يأتي من قطاع الخدمات (الذي يشمل السياحة والاتصالات والبنوك)، ثم قطاع الزراعة بنسبة 30% بفضل نهر النيل العظيم الذي يعد أحد أكبر هبات الله لمصر، بعد ذلك يأتي قطاع الصناعة. فنجد أن مصر تصدر اليوم الأغذية والمنسوجات والقطن، وكذلك النفط والمعادن مثل الذهب والحديد. نعم مصر تصدر النفط، وتنتج أكثر من 4 ملايين طن حديد سنويا، وكانت على مر العصور قوة اقتصادية لا يستهان بها وذلك حتى عهد قريب، فالتاريخ يشهد أن مصر أقرضت بريطانيا العظمى بعد الحرب العالمية الثانية ما مقداره 29 مليار دولار (مع حساب التضخم).



ويشهد أن الملك فاروق أغلق منجم السكري للذهب لأن مصر دولة غنية ويجب أن تحافظ على هذه الموارد للأجيال القادمة، ففي عام 1950 (آخر أيام عهد الملك فاروق) كان الجنيه المصري الواحد يساوي 4 دولارات أمريكية، وفي بداية السبعينات الميلادية (بعد أن تحولت من مملكة إلى جمهورية وفي فترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر) كان الجنيه المصري الواحد يساوي 2.5 دولار أمريكي، وفي عام 1979 وبعد أن خاضت مصر عددا من الحروب أصبح الجنيه المصري يساوي 1.6 دولار حتى تسلم الرئيس حسني مبارك الحكم عام 1981 وكان الجنيه المصري يساوي 1.25 دولار أمريكي، وفي نهاية حكم مبارك كان الدولار الأمريكي يساوي 5.88 جنيهات مصرية!



واليوم في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي وبعد عدد من الانقلابات والثورات وما يسمى بالربيع العربي، يبلغ سعر صرف الدولار الأمريكي 19 جنيها مصريا، والاحتياطي النقدي الذي بلغ قبيل الثورة 35 مليار دولار أمريكي يسجل الآن أدنى مستوياته التاريخية عند 14 مليار دولار أمريكي، والتحويلات من الخارج انخفضت من 22 مليار دولار سنويا إلى 17 مليار دولار فقط.



انهيار مؤلم لاقتصاد عتيد ظل شامخا عبر العصور، ولكن دوام الحال من المحال، فالإقبال على البضائع المستوردة في مصر ارتفع لمستويات قياسية وجعل الاستيراد يستهلك الدولارات داخل مصر بشكل متسارع، مما جعل حكومة السيسي ترفع الضرائب على البضائع المستوردة بشكل جنوني، ومنعها في العديد من الحالات.



التصدير في المقابل ضعيف نظرا للمشاكل الكبيرة التي تواجهها مصر محليا في قطاعي الصناعة والزراعة، واللذين كانا في يوم من الأيام فخرا لكل المصريين. المشاكل السياسية في الوقت نفسه أدت لمشكلتين خطيرتين، الأولى رغبة المستثمرين داخل مصر في الخروج والهروب وتحويل أموالهم للخارج، والثانية عزوف المستثمرين في الخارج عن الاستثمار داخل مصر.



في الوقت نفسه هناك شبه انهيار لقطاع السياحة، فهناك أكثر من 4600 فندق ومنتجع وقرية سياحية أغلقت بعد الثورة التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك، وتقدر خسائر قطاع السياحة المصري خلال السنوات الست الأخيرة بقرابة 250 مليار جنيه.



انهيارات مؤلمة حاولت الدول الشقيقة لمصر وقفها، فساهمت السعودية بـ 5 مليارات دولار، والكويت بـ 4 مليارات دولار، والإمارات بـ 3 مليارات دولار، ولكن الإصلاحات الاقتصادية لم تكن كافية، مما جعل صندوق النقد الدولي يتردد كثيرا في منح مصر قرضا بمبلغ 4.8 مليارات دولار، وذلك لإصراره على التدخل في رسم خطة الإصلاح الاقتصادي المصري، فبالإضافة لتعويم الجنيه، يريد صندوق النقد الدولي رفع الدعم عن المحروقات وتقليص عدد الموظفين الحكوميين، ورفع ضريبة القيمة المضافة.



الاقتصاد المصري في طريقه لمزيد من الانهيارات المؤلمة ما لم يتم اتخاذ خطوات إصلاحية وحقيقية تتركز في دعم الزراعة وتحفيز الصناعة واستعادة ثقة المستثمرين وضمان جو آمن للسياحة. كل ذلك بمساهمة القطاع الخاص وتخفيف الاعتماد على الدولة، فتنافسية مصر في خطر فقد جاءت أخيرا في الترتيب 122 من ناحية تسهيل الأعمال، وهو ترتيب غير مستغرب نظرا للأنظمة والقوانين القديمة التي ما زالت تتعامل بها مصر، وتعد طاردة للمستثمرين وغير محفزة. هذا هو طريق مصر للإصلاح الاقتصادي، وليس بمزيد من الضرائب وخفض قيمة الجنيه وإضعاف القوة الشرائية ومزيد من التضخم.



[email protected]