كينونة

الجمعة - 20 يناير 2017

Fri - 20 Jan 2017

يسيء أو يخطئ شخص ما فيبدأ الخندقان بالتنابز، وتبدأ الأصوات بالتعالي، ويعم الضجيج، ويبدأ الغوغاء من الخندقين في المنافحة والدفاع، كل من جانب، وبالتهكم والاستعداء، وبالتوقع الموصوم برداء تمني ما سيؤول إليه مصير ذلك المخطئ في الجانب الآخر والتشفي به وبخندقه، في مشهد يشبه إلى حد كبير مسرحيات الكوميديا السوداء المثيرة للضحك والضجر في آن واحد. مسرحية أصبحت مقروءة الفصول، ومحروقة المحصول حتى قبل أن تبدأ.



خندق يحمل لواء الدفاع عن المسيء، على اعتبار أنه لم يقل إلا الحق، وبوصفه بريئا من كل ما اتهم به، وخندق يحاول إلغاء المتهم من الوجود الإنساني، متمنيا نفيه من واقع الحياة إن أمكن. وكما هو معلوم وبشهادة العقلاء من غير المسلمين أن الإسلام كأعظم دين يضمن المساواة في الحقوق حتى مع غير المسلمين، وكدين شامل صالح لكل زمان ومكان سعى لإرساء موازين القسط ودعائم العدل ورفع الظلم حتى عن الذين اختلفنا معهم في الدين. قدم للأمة وللعالم أجمع أول وأفضل وثيقة لحقوق الإنسان، لن ولم تكتبها منظمات حقوق الإنسان الانتقائية. يظهر هذا جليا في جميع الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة التي تحدد علاقة الإنسان بمجتمعه المدني، وتضع أمامه المبادئ والأسس القانونية التي تحفظ حقوق الأفراد والجماعات، كما في قوله صلى الله عليه وسلم «إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا»، ولا تخضع هذه القوانين في تطبيقها إلى الأهواء ونزعات النفس البشرية وعاطفتها الهوجاء كما في قوله تعالى «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى» المائدة 88.



تأتي قضية أبوفروه كنموذج بارز لما ذكرت آنفا. ففي هذه القضية انقسم الفريقان إلى قسمين، وهما بالطبع القسمان المذكوران في أول المقال. ولو طبقنا ما أقره الدين على هذه القضية على سبيل المثال لوجدنا أن المتهم الذي تثبت إدانته بحكم شرعي يجب أن ينال جزاءه الذي أقره الحكم، بغض النظر عن كينونة هذا الشخص أو عرقه أو توجهه أو بقعته أو تياره، كأي حكم لأي شخص مذنب، وهنا تنتهي الخصومة لنفتح بعدها صفحة جديدة لحياة طاهرة من ذلك الذنب، فلا حقد ولا عداء ولا شماتة ولا بغضاء، ويبقى أخا لنا في الدين، وإن أخطأ وأذنب فإنه قد نال الجزاء والعقوبة جراء فعله عبر القضاء الشرعي. وفي هذا استلهام للنهج الديني والسيرة المطهرة، كما في حديث النبي محمد عليه الصلاة والسلام الذي قال «لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم». وحق التقاضي مكفول للجميع، فإن رأى أحد أنه أو غيره أخطأ مستقبلا فأبواب المحاكم مفتوحة. فلو أن الإسلام العظيم لم يفصل بين الفعل والفاعل، بين المذنب والذنب، لما أصبح هناك عشرة مبشرين بالجنة، على اعتبار أنهم كانوا كفارا قبل أن يسلموا ويحسن إسلامهم.



أما فيما يخص المتعاطفين مع المتهم الذي أدانه القضاء، فلقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال «والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» عندما أراد الصحابي الجليل أسامة بن زيد أن يشفع في المرأة المخزومية التي سرقت. ولزاما علينا تذكيرهم بقوله صلى الله عليه وسلم «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، حتى نعلم وندرك نبل هذا الدين، وفي هذا تغليب للمصلحة العامة على حساب الفرد المذنب، وأن للناس شعورا وأحاسيس، فهم مسلمون وبشر مثلنا. وقوله عليه السلام أيضا «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا».



من حسن الخلق أيها التياران أن تكون معركتكما معركة شرفاء وليست صراع حذف واجتزاء ووقيعة وشحناء، ومجالا لتصفية الحسابات، وأرضا محروقة تأتي على كل القيم النبيلة، لا تبقى ولا تذر من أخلاق المتخاصمين ومروءة وحلم وورع العربي التي قد قرأتموها في قصص السالفين.. مروءة عنترة، وحلم الأشج ابن قيس، وورع أبي العتاهية.