صالح عبدالله كامل

وداعا أيها الأمير

السوق
السوق

السبت - 14 يناير 2017

Sat - 14 Jan 2017

يقول ربنا - سبحانه وتعالى - وهو أصدق القائلين، في كتابه المبين، وفي الآية السابعة والخمسين من سورة العنكبوت، مخبرا عن حقيقة من أهم الحقائق، وعن سنة من السنن الإلهية في الكون: (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون)، ليؤكد لنا ربنا - سبحانه وتعالى - بجلاء تام، وليخفف عن القلوب والأفهام، أن الموت حق معلوم، وأنه هو المصير المحتوم الذي ينتظر كل مخلوق في هذا الكون.



الموت حق، وهو نهاية المطاف، هذا إيماننا، وتلك هي السنة الإلهية الماضية في كونه وخلقه، ولكن رحيل العباقرة الأفذاذ الذين عاشوا حياتهم لخدمتنا، وجندوا أنفسهم لسعادتنا، ورعايتنا، كما كان دأب

الراحل أخي، وصديق عمري، صاحب السمو الملكي الأمير محمد الفيصل - يرحمه الله رحمة واسعة ويتقبل منه أعماله ويربيها له، ويجعل الفردوس الأعلى منزله في مقعد صدق عند مليك مقتدر، هذا الأمير الذي قاد سفينة الإبداع والتفكير، بكفاءة منقطعة النظير، بأفكار سبقت زمانه، وفاق بها أقرانه، أقول إن رحيل مثل هؤلاء، يعد فاجعة كبيرة، مع تسليمنا لقضاء الله - تبارك وتعالى - ومشيئته الماضية في خلقه، إذ ليس هناك مصيبة على الإنسان - أي إنسان - أعظم من مصيبة الموت.



وكنت قد عاهدت نفسي منذ فترة من الزمن، وكذلك عاهدت القراء في الوطن العربي والمتابعين لمقالاتي وكتاباتي أني سأتوقف عن الكتابة، وقد وفيت بعهدي ووعدي، ومن وقتها، وأنا لم أكتب، ولم أنشر حرفا واحدا، لكنني أمام هذه المصيبة، وبغير إرادتي؛ فالقلب قد شعر بالحزن، واعتصره الألم، والعين قد شعرت بالحزن، وغلبتها العبرات؛ فكان لا بد للقلم أن يكتب؛ فهذا واجب أخي وصديقي، وحقه علي، هذا الرجل الراقي، العبقري، الفذ المهذب الحليم، ما كان يوما لعانا، ولا شتاما، ولا فاحشا، ولا متفحشا، ولا بذيئا، ما كان منتقصا من قدر أحد، وما كان منتقما، لقد كان صاحب خلق وقيم، وإلى جوار ذلك كان إداريا فذا، وعبقريا فريدا، محلقا بأفكاره في عنان السماء، مسافرا بها خارج حدود المكان، سابقا بها الزمان، متميزا بها على جميع الأقران.



الأمير محمد الفيصل رجل مفكر، أمير في أخلاقه، أمير في تصرفاته، كان من أوائل من فكروا في البنوك الإسلامية، وتزاملنا سويا، واهتم يرحمه الله بمشكلتين في حياته كل منهما تخص الأمة، أما الأولى فهي البنوك الإسلامية، وأما الثانية فهي مشكلة المياه، أما الأولى وهي البنوك الإسلامية فقد كتب الله لها أن تولد على يد كوكبة من الرجال، وهم الأمير محمد الفيصل يرحمه الله ومعه الدكتور (أحمد النجار) أكاديمي، والدكتور (سامي حمود) أكاديمي، والشيخ (أحمد بزيع الياسين) رجل أعمال يرحمهم الله جميعا، وبقي من هذه الكوكبة سعادة الشيخ (سعيد لوتاه) أمد الله في عمره، وهو مفكر مهتم بهموم أمته، ومعالي الدكتور (أحمد محمد علي) أطال الله في عمره وشخصي الضعيف، بهذه الكوكبة كتب الله أن تظهر البنوك الإسلامية والتي كانت تهدف إلى إنماء البلاد وتشغيل العباد، وأضع تحت كلمة كانت خطوطا عدة.



رحم الله من مات من هذه الكوكبة، وقدر للأحياء منهم ومع من يؤمن بفكر إنماء البلاد وتشغيل العباد أن يتعاونوا بإعادة المسيرة إلى المسار الطبيعي الذي أراده الأمير (محمد الفيصل) يرحمه الله، وزملاؤه.

أما الثانية وهي مشكلة المياه فعندما كان محافظا لمؤسسة تحلية مياه البحر، كانت له أفكار فاق بها أقرانه وسبق بها زمانه، منها أنه بحث كيف يتم إحضار جبال جليد من القطب حتى تكون قريبة من الجزيرة العربية فنأخذ منها حين نحتاج إليها، ومنها كيف يتم عمل قناة من الخليج العربي إلى البحر الأحمر مرورا بالعاصمة الرياض للمساهمة في تغيير المناخ، وكان هذا الكلام قبل أربعين عاما، كانت أفكاره في ذلك الوقت أفكارا خيالية، ولكن الآن أصبحت ممكنة التنفيذ.



ليس المجال مجالا لرواية ذكريات مع هذه الشخصية الفذة النادرة التي تزاملنا معها ما يقرب من الستين عاما، فقد عرفته شابا يافعا ثم جمعتنا وسيلة البنوك الإسلامية.



لقد انطمرت في الثرى قمة عليا من قمم النبوغ والإبداع والتفكير، والتي تمثلت في الأمير محمد الفيصل يرحمه الله، وأتقدم بخالص العزاء لعميد أبناء الملك فيصل صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، وابن الراحل صاحب السمو الملكي الأمير عمرو، وبناته الأميرات ولأخوات الراحل ولا أقول الفقيد، فآثار الأمير محمد الفيصل ستظل حية إلى ما شاء الله، ولكن أقول الراحل الذي نسأل الله له المغفرة والرحمة، وأن يسكنه فسيح جناته.



وختاما:



كتبت ما كتبت وأنا أغالب ذكرياتي وأشجاني مع الأمير محمد الفيصل – يرحمه الله -، وكم كنت أتمنى أن أقوى على كفكفة الدمع الذي بلل حروف كلماتي، ولكن هذه هي الدنيا، وهكذا تكون الحياة، ليل ونهار، وسعادة وأحزان، ولقاء وفراق.



أودعك أيها الأمير الفذ العبقري، وسيذكرك جيلنا هذا، وستذكرك الأجيال القادمة دوما بالخير والعرفان؛ فأنت في قلوبنا، وبين جنبات تاريخنا.



صحيح أنك رحلت من عالم الأحياء، ولكنك ستظل دائما في قلوبنا، وذكرى حاضرة في عقولنا.



فوداعا أيها الأمير، وداعا أيها المفكر العبقري الفذ الذي سبق الزمان بأفكاره، مكانك محفوظ في قلوبنا وفي تاريخ بلادنا.



[email protected]