واقع التجريد الفكري

الخميس - 12 يناير 2017

Thu - 12 Jan 2017

تخيلوا أن جماعة كانوا جالسين يوما يتناقشون حول أسنان الحصان، وقد ذهب بهم الجدل كل مذهب، مع أن الحصان كان موجودا بالقرب منهم، وأنهم باستطاعتهم الذهاب إليه وفحص أسنانه، وتخيلوا أن هناك جماعة في عصور متأخرة يتعرضون لبحث القضايا التي كانت تهز المجتمع الإسلامي هزا، كقضية «الخلافة» مثلا، فنجدهم يناقشونها وكأنهم يعيشون في عالم آخر.



وعلى هذا المنوال، وفي عالمنا العربي خاصة، ليس بالخيال، بل هو الواقع الذي يسيطر المنطق القديم على كثير من قضاياه الفكرية والاجتماعية، ويحلق في عالم التجريد الفكري الذي هو بعيد كل البعد عن مجريات الحياة الواقعية، وكما وصفها ابن خلدون «صور قد تجردت من مواردها»، وهذا الوصف، جاء موازيا لصورية المنطق الذي ميز فيه أرسطو بين الأشياء ومادتها، ليتميز منطقه بصفتين رئيسيتين:- الأولى منطق صوري، والثانية منطق استنباطي، وضرب مثالا في «التماثيل» أن لها صورة وهي شكلها الظاهري، ولها مادة تتكون من رخام أو نحاس أو ما أشبه ذلك.



يوضح الدكتور علي الوردي هذا المنطق في ميدان الهندسة، ويقرر أن المهندسون يهتمون بالشكل التي فيه الأشياء كالهرم، والمخروط، والأسطوانة، أو كالمثلث والدائرة والمستطيل، ولا يبالون بالمادة التي تتكون منها الأشكال، ويرى أن المناطقة القدامى لما رأوا نجاح منطقهم في ميدان الهندسة، أو غيرها من العلوم الرياضية ظنوا أنهم سينجحون كذلك في جميع الميادين الفكرية، وإذا كان الأمر كذلك، فإنهم بالفعل، أهملوا سنة معلمهم الأول، كما -الحال- في الأتباع المتأخرين في كل زمان ومكان.



هناك حقائق تعكس الوقائع المحسوسة، حقائق تحس بالماضي من دون إدراك المتغيرات وتغفل عن إحساس المجتمع الراهن وما يعانيه من توجس وعجز لمعالجة أزماته بعد كل متغيرات ووقائع حياتية، ومن طريف ما يذكر في هذا الصدد: أن مؤتمرا أقيم بأحد القاعات بعنوان «حقوق المرأة»، مكتوب على مدخله لافتة تشير أنه «ممنوع دخول النساء»!



إن هذا المؤتمر ناقش بالفعل حقوق المرأة والقضايا المتعلقة بها، ولكنه لا ينفر من تأثير المنطق الصوري صورة مناقشة حقوق المرأة فقط لا غير، من غير ثمار ستقطف على الجانب المحسوس، بل إنه هدر مادي وزمني، لأنه أهمل واستصغر شان الوقائع الجزئية المحسوسة، التي تكمن في حضور العنصر النسوي لما يخص قضاياها التي هي أدرى بمستقبلها ومصالحها، ولسان حال المنطق الأرسطي في ذلك يخاصم ويقول: كيف تناقش حقوق المرأة في ظل غيابها وتهميش آرائها. ولسان حال المنطق الاستنباطي التابع له يعيد ويزيد بموضوعية أن كل القضايا صغيرها وكبيرها، أولها وآخرها، تحتاج إلى روح حسية ونزعات واقعية تضاهي الواقع الحياتي. وتمحص في إعسار الفرد لتكون ملموسة ومحسوسة.



الواقع متغير باستمرار، وهذه الحقيقة تثبتها مشخصات الحياة الاجتماعية وعلماء الاجتماع، بل إنها حقيقة يدافع عنها ابن خلدون من خلال تشخيصه الأسباب والعوامل المؤدية إلى التغير الاجتماعي، وبذلك آمن بإعادة النظر فيما أتى به الماضويون، وعبر عن تلك، في أول المقدمة بالقول: وأنا معترف بالعجز عن المضاء في مثل هذا القضاء، راغب من أهل اليد البيضاء في النظر بعين الانتقاد، لا بعين الارتضاء. إنها صور قد تجردت من مواردها، كما كان يصفها، فمتى تعود تلك الصورة إلى أصولها؟