ثقافة مجتمع.. رحلة جوية أنموذجا

الأربعاء - 21 ديسمبر 2016

Wed - 21 Dec 2016

يقول غوستوف لوبون في كتابه روح الجماعات سيكولوجية الجماهير -بما معناه- إن الفرد إن وضع نفسه ضمن جماعة فإنه يستشعر قدرة لا تقهر تمكنه من الاستسلام لغرائز لم يكن ليستسلم لها لو كان منفردا، ويستمد ذلك الانسياق خلف الغرائز -التي كان يردعها ويتحكم فيها عندما كان منفردا- قوته من شعوره بالتحرر من المسؤولية كفرد، حيث تقع المسؤولية على عاتق الجماعة التي ينتمي لها.



ويضيف أن روح الجماعة معدية، ذلك أنه عندما يكون الفرد جزءا من جماعة يسهل اقتياده للتوجه العام للجماعة وسلخه من تفرده وتميزه وحكمه على الأمور من منظور شخصي وليس من منظور الجماعة، فكل ما يلزم هو إقناعه بالتضحية بمصلحته الشخصية من أجل مصلحة الجماعة الأهم -ولكن هل هي فعلا مصلحة الجماعة أم مصلحة قائد الجماعة- كذلك فإن الشذوذ عن الجماعة يحتاج من الجلادة ما لا يحتمله معظم الأفراد.

شبه لوبون تأثير الجماعة على الفرد بتأثير المعالج على من ينومه مغناطيسيا، واستشهد على ذلك بدراسات أثبتت أن التحكم في الأفراد عن طريق سحر الجماعة إنما هو أسهل من التحكم في المنوم مغناطيسيا الغائب عن الوعي. طبعا لوبون في كتابه لا يجرم الجماعات ولا يحملها شرور العالم، وإنما يجد أنه يسهل توجيه أفرادها للخير كما يسهل توجيههم للشر.



لكنه في ذات الوقت وجد أن الإنسان إذا ما أصبح جزءا من جماعة فإنه يهبط عدة درجات على سلم الحضارة كنتيجة طبيعية لاستسلامه لرأي الجماعة وإغفاله فكره وعقله، بينما يرتقي الإنسان المنفرد المستقل درجات في المقابل كنتيجة لاستقلال فكره وإعمال عقله وتطوير ثقافته.



تتجلى نظرية لوبون واضحة إذا ما أخذنا عينة من سلوكيات المجتمع وأخضعناها لنظرة فاحصة. ولذلك سوف أعمد إلى تطبيق نظريته على ممارسات المسافرين كأفراد منتمين لجماعة خلال آخر رحلة داخلية كنت على متنها. عندما سمع المسافرون على متن الرحلة نداء الإركاب توجهوا للبوابة واصطفوا. بدا الطابور منظما في البداية لكن سرعان ما تكدس المسافرون بجانب بعضهم البعض بشكل عشوائي غير منتظم. حتى من كانوا منهم ملتزمين بالطابور في بادئ الأمر تلقفوا العدوى فتركوا التزامهم تماشيا مع التوجه العام ولم ينكر عليهم أحد لأن التكدس العشوائي بدا حينها كروح الجماعة السائدة وضاعت المسؤولية!

بعد الصعود للطائرة بدأت لعبة الكراسي المعروفة وتزاحم الركاب مرة أخرى لأن البعض يريد تغيير مقعده حسب جنس الراكب الذي يجانبه. ولأنه التوجه العام للجماعة استسلم حتى من يرفضون ذلك السلوك المؤدي للفوضى والتأخير لروح الجماعة وتجاوبوا خوفا من اللوم عليهم وتلقفهم بنظرات النشوز.



قبيل الإقلاع والهبوط بدقائق قليلة يتكرر النداء بإغلاق الهواتف المحمولة ولا يستجيب البعض، ذلك غالبا لأنهم وسط الجماعة وتخلصوا من شعور المسؤولية. وبعد الهبوط يتكرر النداء بالبقاء في المقاعد حتى تتوقف الطائرة كليا وتطفأ إشارة ربط أحزمة المقاعد، ومرة أخرى لا يستجيب البعض ويقفون ويترنحون ويفتحون خزائن الأمتعة وتسقط بعضها وتنتشر العدوى فيزيد عدد هؤلاء بنمط متسارع ويخرج الوضع عن سيطرة ملاحي الكابينة.



جميع هذه الأنماط السلوكية للأفراد المنتمين للجماعة تتهذب وتتلاشى بمجرد أن يجد الفرد منهم نفسه خارج محيط الجماعة ومتفردا في محيط أجنبي يتم فيه تحميله مسؤولية أفعاله وقراراته وحده دون النظر لجماعته ودون أن تملك جماعته من الأمر شيئا. في تلك الظروف التي يبدأ الفرد معها بالتفرد سواء بإرادته أو بغيرها ترتقي تلقائيا سلوكياته على سلم الحضارة.. وللمقال بقية.



[email protected]